أحاول عادة تجنب تناول الموضوعات التى تحظى باهتمام قطاع واسع من الكتاب، تخفيفًا على القارئ، لكن مقالات «نيوتن» الأربعة فى «المصرى اليوم» اعتبارًا من الأحد 12 أبريل 2020، أثارت إشكالية منهجية.. هل نتقبل ما ورد فيها بصدر مجلتنا الغراء «صباح الخير» الرحب، وعقلها المنفتح لكل الآراء والاتجاهات، عدا التمييز والتطرف والعنف بالطبع؟!، أم أن هناك خطوطًا حمراء قد تم تجاوزها، مما قد لا يسمح بالتسامح؟!.. خاصة أن أول المقالات تم نشره فى نفس يوم عودة الأعمال الإرهابية إلى قلب القاهرة من جديد.. قبل الإجابة، لنعرف أولًا ماذا قال «نيوتن». مقال «استحداث وظيفة» المقال الأول بعنوان «استحداث وظيفة»، طالب فيه بتعيين «حاكم لسيناء»، لمدة 6 سنوات، حدد مواصفاته بأن يكون غير ملتزم ببيروقراطية القوانين السائدة بمصر، غير مقيد بوزارات حكومتها، ولا خاضع لميزانية الدولة!!، حاكم بصلاحيات مطلقة، لا يجمع الإقليم التابع له بالدولة سوى السياسة الخارجية، والدفاع المسئول عن حماية الحدود.. وهنا تلح على جملة اعتراضية، فلو كان الحديث عن «شمال سيناء» فقط، لقلنا أنه يحاول رأب الصدع فى العلاقة بين قطاع من أهالى سيناء وبعض مؤسسات الدولة.. ولو كان الحديث عن «جنوبسيناء» لفهمنا أنها بحثًا عن تحقيق طفرة عصرية فى الإدارة، على النحو الذى يضعها ضمن المقاصد السياحية العالمية، الجاذبة لعشرات الملايين من السياح.. ولو كان الحديث عن «محافظ» لافترضنا انها دعوة لتطوير إدارى شامل.. لكن الحديث هنا ياسادة عن «حاكم» لإقليم شرق القناة، أى كيان جيوسياسى جديد غير تابع للدولة المصرية، يستعير النظم والقوانين المطبقة فى دول مثل سنغافورة أو ماليزيا أو هونج كونج، ليعمل بموجبها. نعود للكاتب والمقال، يندد بصورة مسبقة بأى انتقادات له، مؤكدًا أن الذين يعتبرون سيناء خطًا أحمر، سيبقونها مهجورة جرداء، أو ملعبًا مفتوحًا للجماعات المتطرفة والصفقات المشبوهة.. رغم ذلك يعترف «نيوتن» بأن البعض قد يرى فى ذلك مغامرة صادمة، والبعض الآخر سيئ النية سيصوره كمؤامرة لتفتيت الدولة.. وبعد مناورة فاشلة لنفى تلك التصورات، عاد ليؤكدها، بتقديم سيناء باعتبارها تمتلك كل مقومات الدولة، مشيرًا إلى أن مساحتها نحو 60 ألف كيلو متر مربع.. أى تسعة أضعاف مساحة سنغافورة «721 كيلو متر2».. 6 أضعاف مساحة هونج كونج «حوالى ألف كيلومتر2».. وتقترب من مساحة الأردن «89 ألف كيلومتر2»، وكوريا الجنوبية «100 ألف كيلو متر2».. ويستكمل «نيوتن» تناول الفرص المتاحة لنجاح التجربة، نتيجة تكامل مقومات الدولة لسيناء، فيؤكد أنها متعددة؛ مشيرًا إلى ما يمتلكه الإقليم من ثروات تعدينية متعددة، وإمكانيات سياحية لا تبارى، وموقع فريد يترجمه «جمال حمدان» برصد عبقرية الزمان والمكان.. دولة سيناء كما يراها الكاتب ستصبح أحد النمور الأفريقية الآسيوية، والتجربة متاحة للإستنساخ فى محافظة أخرى، وهو مايعتبره انطلاقة قومية جبارة!!.. أما إذا فشلت التجربة فإن الكاتب لا يرى أن هناك ما يمكن البكاء عليه!!.. الكاتب إذن يعتبر فصل سيناء تجربة!!، لو نجحت يتم استنساخها فى النوبة، حلايب وشلاتين، الصحراء الغربية، وهكذا تصب النجاحات فى كيانات مفتتة، تسقط بعدها الدولة الوطنية فى مصر، وهو نفس الهدف الذى سعى الإخوان وداعش والقاعدة لتحقيقه.. أما إذا فشلت، فالكاتب لا يرى فيما حققته جهود الدولة من بناء وتعمير مايستحق البكاء عليه.. كيف استطعت يا «نيوتن» أن تجمع كل هذا القدر من الإنكار والجحود؟!. مقالات التأييد «نيوتن» أعقب مقاله الأول بثلاثة مقالات تدعم وجهة نظره، ثم مقال رابع يمثل التراجع.. المقالات الداعمة تضمنت ردودًا مؤيدة ومكملة للفكرة.. الإمام الفارسى!!، فى المقال الأول «حاكم سيناء» أكد على فكرة الانفصال، باعتبار الطرح فكرة مدهشة بمليار دولار، ووصف تنفيذها بمشروع العصر، شريطة استقلال الإقليم الكامل، منعًا لتداخل أى سلطات أخرى داخله.. السيد عبدالعزيز شريف أضاف أن تكون سيناء مقاطعة على غرار مقاطعة بافاريا الألمانية. لها حكومة مستقلة تتمتع بحكم أشبه بالذاتى. محمد طنطاوى فى المقال الثانى «الإدارة الرشيدة والانطلاق الحقيقى» أكد أن تميز «سيناء» وتفردها يجعلها تستحق خصوصية إدارية تخرج بمجال التفكير من حيز الملاءمات والمواءمات إلى الانطلاق الحقيقى، بمعنى تجاوز حساسيات فكرة الاستقلال عن الدولة، مشيرًا إلى أن إسرائيل قدرت قيمة سيناء فاقتطعتها 67-1973، ووصف ماصنعته فيها بأنه ما لم تستطع مصر فعله خلال تاريخها المديد!!.. حتى المشاريع السياحية، والأثرية، والتعدينية التى نفذتها مصر، رأى أن اقتطاع «سيناء»هو الذى نبه المسئولين فى «مصر» إليها!!.. تمجيد لتلك الطفرة التى صنعها الاحتلال، وتقزيم ما فعلته الإدارة المصرية، يستهدف تأكيد فكرة انفصال الإقليم. فى المقال الثالث «سيناء وإمكانيات بلا حدود» طالب محمد شعبان بتحويل «نخل» فى قلب سيناء إلى وول ستريت، تتمتع بمميزات اقتصادية جاذبة، تتمركز فيها أكبر البنوك العالمية، ودعا لاستعادة بحيرة البردويل وضعيتها التصديرية لأسواق باريس، وتصدير حيوان الأرتيميا البديل للكافيار إلى اليابان، كما طرح محمد السيد رجب نفسه لشغل منصب «حاكم سيناء» مؤكدا امتلاكه مقومات الوظيفة وهى الإخلاص والوطنية ونظافة اليد. والحقيقة أننا رغم تسليمنا بحق «صلاح دياب» -الذى دأبت معظم المصادر على الربط بينه وبين «نيوتن»- فى الكتابة تحت اسم مستعار، بدافع الشهرة، أو غيرها، إلا أنه لا يمكن الموافقة على امتداد ذلك الحق، فى حالة تناول قضايا لها علاقة بالأمن القومى، لأن ساعتها يفرض السؤال نفسه.. من أنت؟ وما خلفيتك السياسية؟ وهل تتمتع بكامل حقوق المواطنة، وجذور الولاء للوطن؟.. أم تحمل جنسية بريطانية وتحظى برعاية أمريكية ولديك ضمانات إسرائيلية؟.. الإجابة هنا فيصلية.. والغريب أنه مثلما خرجت المقالات الرئيسية تحمل غموض «نيوتن»، خلت الردود فى المقالات الثلاث التالية من أى إيميل، أو أكاونت لأى موقع تواصل تدل على أصحابها، بل كانت مجهولة الشخصية ككاتبها، ما يؤكد أن الكاتب كان يتوقع أن يتعرض طرحه لعاصفة الانتقادات التى ثارت، ما دفعه لشن حملة تأييد، وطرق على الفكرة، ليبدو أن هناك خلافا فى الرأى، وسمح لنفسه بالتطاول على معارضيها بأنهم (يصدرون جعجعة بلا طحين، حول أمور الوطنية، والسيادة، والاستقلال، الذين يرون أنها لا تتحقق إلا بترك «سيناء» صحراء خاوية، ومرتعًا لقوى إقليمية أو جماعات سياسية مناوئة). تعرية الكاتب والمقالات المقال والكاتب تعرض لحملة هجوم واسعة، من جانب كتاب رأى ومفكرين ناهيك عن وسائل التواصل.. الصديق المحترم «د.محمد مجاهد» أدرج المشروع بذكاء باعتباره حلقة ضمن سلسلة مشروعات إسرائيلية مناظرة.. «جيئورا أيلاند» مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق.. «عوزى درعى» نائب مستشار الأمن القومى.. «ياهوشع درعى» أكاديمى على صلة بدوائر صنع القرار.. و«شمعون شايبر» السكرتير العسكرى لوزير الخارجية الإسرائيلى، و«شلومو فوجل» أحد مسئولى المبادرات الإقليمية بين إسرائيل وجيرانها.. «كرم جبر» كتب إن مشروع «نيوتن» استنساخ لمشروع «طائر النهضة الإخوانى» الذى جاء به مرسى وجماعته، وتدخلت القوات المسلحة بإصدار قرارات عسكرية بحظر التملك والبيع فى سيناء إلا للمصريين، حتى تتمكن من إجهاضه.. كشف تزامن عرض المشروع مع محاولة الإرهاب استئناف نشاطه بالعاصمة، وبدء الإخوان حملات إعلامية ضارية ضد الدولة المصرية، للتشكيك فى قدرتها على احتواء وباء «كورونا»، ناهيك عن إدراجه ضمن المشاريع الإسرائيلية والمشروع الإخوانى، كل ذلك كان كفيلًا بتعرية الكاتب والمقالات. المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام قرر استدعاء الممثل القانونى لجريدة «المصرى اليوم» وكاتب مقال «وجدتها» الموقع باسم «تيوتن»، وذلك للتحقيق فيما نشر، بعدما عقدت لجنة الشكاوى اجتماعًا ناقشت خلاله تقارير لجنة الرصد التى أكدت أن المقالات المذكورة تحمل مطالبات تخالف الدستور بعزل سيناء عن مصر، وتعيين حاكم خاص بها، بما يهدد الأمن القومى المصرى، فضلًا عما تضمنته من إهانات بالغة للمخالفين لما ورد بالمقالات.. ويفسر ذلك ما بدا من تراجع بمقال «نيوتن» الأخير «سيناء.. بوابة الأمن والخير».. عندما أكد أن ما طرحه لا يمكن أن يصطدم مع الأمن القومى الاستراتيجى للوطن، وأشاد باهتمام الدولة بالبنى التحتية فى سيناء، خاصة أنفاق القناة، التى ربطت سيناء عضويًا بالوطن.. ببدء التحقيق، وتراجع الكاتب.. تُرفَع الأقلام. التناول الهادئ مراجعة الكاتب لنفسه دفعته لتحديد أصل المشكلة، بشكل هادئ وموضوعى، على النحو الذى لو بدأ به لكنا له من الشاكرين.. مصر وفق أحدث تقارير البنك الدولى 2020 تحتل المرتبة 114 عالميا فى سهولة تحقيق الأعمال، بعد أن كانت رقم 94 عام 2011، ما يعنى أن فوضى يناير، وسوء إدارة الدولة خلال حكم الإخوان، وممارساتهم الإرهابية على امتداد السنوات التالية، ونشاط الجماعات الإرهابية فى سيناء سعيًا لفصلها، أعاق دعم الاستثمارات بالسرعة التى جهزت بها الدولة البنى التحتية.. ويعنى ذلك أن المطلوب ليس فصل سيناء عن مصر، بل العكس الحفاظ عليها فى كنف الدولة المصرية، تحميها فى مواجهة الإرهاب، والصفقات المشبوهة، وفى نفس الوقت تجرى تطويرًا جذريًا للإدارة المحلية، خاصة بالمحافظات التى تمتلك مقومات جذب للاستثمار الدولى، مثل سيناء والبحر الأحمر، على النحو الذى يوفر مرونة للمحافظين فى تيسير الإعمال، وتقديم التسهيلات الكفيلة بجذب الاستثمار.. عزيزى «نيوتن».. ليس هكذا تطرح قضايا الوطن.