فى زيارة عمل لإحدى قرى الصعيد البعيدة لتقييم بعض مشروعات التنمية الاقتصادية والتعليمية المُنفذة من قِبَل الجمعيات الأهلية، لاحظت أن أهالى القرية من المسلمين والأقباط يتسابقون لجمع تبرعات من أبنائهم الميسورين الذين يعملون فى القاهرة أو دول الخليج أو دول المهجر «أمريكا وكندا وأستراليا». من أجل بناء منارة كبيرة لجامع القرية القديم بدلًا من منارته الصغيرة، وتجليد الجدران الجيرية للكنيسة القديمة بالرخام الأبيض والأخشاب وتغطية أرضها بالسيراميك بدلًا من البلاط القديم. فى حين أن المدارس المجتمعية للبنات داخل القرية التى تعالج ظاهرة تسربهن من التعليم الإعدادى، والتى أُنشئت بتبرعات من بعض الأهالى والجمعيات الأهلية ومعونات دولية، كانت تعانى من أزمة شديدة فى دعمها المادى واستمرار عملها. وسألت بعض قيادات القرية والمسئولين عن جمع التبرعات: «لماذا لا يتم جمع تبرعات من أبناء القرية لمدارس تعليم البنات مثلما يتم للجامع والكنيسة؟»...وتجرأتُ أكثر فقلتُ: «تعليم البنات أولوية عن منارة الجامع ورخام وسيراميك الكنيسة، وبصراحة أكثر فإن منارة الجامع القديمة رُغم قصر طولها فإنها جميلة ومتناسبة مع صغر حجمه. وأن الرخام والسيراميك لا يتفقان مع بساطة الكنيسة القديمة، فسوف يحرمها الدفء والحيوية والجَمال. ولا تحتاج الجدران إلا لطلاء زيتى بسيط وأيقونات قبطية أصيلة، كما أن بلاط الكنيسة القديم والمنقوش عليه ورود صغيرة أجمل مائة مرة من السيراميك». رفضتْ قيادات القرية ما قُلته بحجج دينية واجتماعية مفادها أن أبناء القرية العاملين فى الخارج يدفعون لبناء بيوت الله لتكون فى أفضل شكل وصورة لاستقبال المُصلين. وهذا هو الأبقى لهم فى الدنيا والآخرة، وأن الدوافع الاجتماعية والدينية لدعم تعليم البنات ليست قوية بما يكفى لإقناعهم بالتبرع من أجل مدارس المجتمع للبنات!! مبالغات البناء والطقوس المبالغة فى بناء دور العبادة وتزيينها بمواد ثمينة من «رخام وأخشاب وزجاج ملون»، والتزيُّد فى استعراض الطقوس الدينية؛ خصوصًا فى مواسم الأعياد، هما ظاهرتان غريبتان بعض الشىء على المجتمع المصرى فى العَقدين الأخيرين. ولا تتفقان مع ظروفنا الاقتصادية المتواضعة، ولا تعكس أى رؤية معمارية وفنية أصيلة. بل على العكس تكرّس ثقافة أن «الحَجَر أغلى من البَشر» وأن «الطقوس مقدمة على مقاصد الدين وغايته». وفى إطار أزمة «الكورونا» جاءت بيانات الأزهر الشريف ودار الإفتاء والكنائس المصرية حاسمة لإقرار وقف كل الطقوس والصلوات الجماعية، سواء فى صلاة الجمعة أو قداسات الأحد، إضافة لكل الخدمات الدينية؛ انتصارًا لمقاصد الدين العليا فى حفظ الإنسان وحمايته من كل الأخطار والأضرار، وإعمالًا للعقل وأخذًا بالأسباب والحكمة والعِلم.. وذلك رُغم دعوات بعض رجال الدين الإسلامى والمسيحى لاستمرار الطقوس الجماعية؛ لأن الله قادرٌ على حماية المؤمنين وبيوته من أى مَخاطر!!. الفضاء الإلكترونى للمتدينين قرارات غلق المساجد والكنائس آلمت المتدينين كثيرًا؛ خصوصًا لأنها صادفت مناسبات دينية كبيرة مثل: الصيام وأسبوع آلام السيد المسيح وعيد القيامة عند المسيحيين، والاستعداد لصيام رمضان وصلاة التراويح وليلة القدر فى الشهر الفضيل عند المسلمين، وما يصاحب هذه المناسبات من طقوس دينية وعادات اجتماعية مميزة. ويشار هنا إلى أن النساء البسيطات؛ خصوصًا فى الريف هن الأكثر تضررًا؛ حيث تشكل هذه المواسم الدينية فرصًا لممارسة حرياتهن الاجتماعية فى الذهاب للمساجد والكنائس والاستمتاع بالعادات والطقوس الاجتماعية المصاحبة لها. ورُغم ذلك استجاب المتدينون للقرارات وحوّلوا صلواتهم وعباداتهم إمّا إلى صلاة «بيتوتية»؛ كل واحد فى بيته، أو صلاة جماعية من خلال الفضاء الإلكترونى. ومن خلال تطبيقات «الإنترنت والسوشيال ميديا» صارت كل جماعة أو أسرة تنظم وقتًا مُعينًا للصلاة والوعظ والتأمل للقصد الإلهى من هذا الوباء. وعملت المؤسّسات الدينية أيضًا على زيادة قدراتها الإلكترونية باستخدام العديد من صفحاتها الرسمية على السوشيال ميديا لبث الصلوات والوعظ والتعليم والآراء الفقهية؛ لتكون وسيلة للتفاعُل والحوار بينها وبين الناس وتلقّى طلباتهم وأسئلتهم ومقترحاتهم. وفى تقديرى، أن الناس اختبروا تجربة دينية ثمينة، سوف تذكّرهم دائمًا أن الصلاة والتقرُّب لله لا تتطلب كل هذه المبالغات والطقوس، بل تتطلب أكثر التواضع والعمق وانفتاح القلب والصدق مع النفس. يتحدث العالم الآن عن كَمّ ونوعية التغييرات التى سوف تحدث فى مجالى السياسية والاقتصاد بعد أزمة «كورونا»، فهل ستحدث تغييرات أيضًا فى المجال الدينى، وفى أى اتجاهات؟؟ التجربة التى نَمُرُّ بها الآن ستشكل مساحات كبيرة للتفكير والتأمل والمراجعة، سواء من قِبَل المؤسّسات الدينية المسيحية والإسلامية أو الباحثين أو الناس العاديين، حول كثير من القضايا الدينية التى طالما دارت حولها الكثير من الأسئلة والنقاشات. ويأتى على رأسها: هل لاتزال خطابات التطرف والتعصب الدينى والمذهبى والمصالح السياسية والمؤسّسية المغلقة صالحة فى إطار الانكشاف الكونى بأن مصير العالم والإنسان بات مشتركًا بعد أزمة «الكورونا». وهل المبالغات فى بناء دور العبادة والطقوس لاتزال صالحة فى إطار معاناة الناس من الأزمات الاقتصادية ونقص حاجاتهم الأساسية؟.