بعيدًا عن هيئة الأممالمتحدة وجلسات المجلس الدولى لحقوق الإنسان، التى انعقدت أخيرًا فى جنيف- مدينة المنظمات الدولية-؛ فإن هناك الكثير والكثير الذى يستحق أن نسجله عن الحياة بتلك المدينة؛ خصوصًا مع هجوم «كورونا» الذى غيّر وجْه الحياة فى تلك المدينة الساحرة الرصينة التى تحتضن «منظمة الصحة العالمية».. حديث الساعة وكل ساعة خلال الفترة المقبلة. الأمور كانت تسير فى البداية بصورة نمطية ودون أى معوقات، حتى إنه لم يكن هناك أى ترقبات من جهات صحية محلية للقادمين عبر مطار جنيف الدولى، سواء على الجانب السويسرى أو الفرنسى، وربما هذا ما أثار دهشتنا فى الأيام الأولى؛ وبخاصة داخل مقر الأمم الذى يحتضن جلسات المجلس الدولى لحقوق الإنسان وبحضور العديد من وفود دول مختلفة!. إلّا أن الأمْرَ اختلف تمامًا بعد أربعة أيام من وصولنا؛ حيث تم نقل جلسات المجلس لإحدى القاعات وتم السماح فقط لمندوبى الدول المشاركة وعضو واحد عن المنظمات الأهلية بالحضور داخل القاعة، بينما تم نقل الجلسات عبر شاشات تليفزيونية؛ بحيث يترك كل شخص كرسيًّا فارغًا بينه وبين الذى يجلس إلى جواره، مع وجود موظفة مهمتها الأساسية مراقبة التزام الحضور بهذا الأمر. ومع تزايُد أعداد المصابين فى عموم البلاد، أصدرت الحكومة السويسرية تعليماتها لكل السكان تطالبهم فيها بالبقاء فى منازلهم؛ خصوصًا المرضى وكبار السن، كما فرضت حظرًا على مستوى البلاد على أى تجمُّع يضم أكثر من خمسة أشخاص، وأقرّت المزيدَ من الإجراءات للمساعدة فى دعم الاقتصاد، مع السماح بإغلاق المصانع ووقف الأنشطة الصناعية إذا ما ثبت أن استمرارها سيؤدى إلى زيادة انتشار فيروس «كورونا». والثابت أن الحدود البرية المفتوحة بين دول الاتحاد الأوروبى وارتفاع أسعار الإقامة فى جنيف، يدفعان معظم القادمين لحضور جلسات المجلس الأممى؛ للإقامة فى إحدى القرى الفرنسية القريبة من الحدود السويسرية؛ حيث لا تتعدى المسافة ثلث الساعة للوصول لمقر المجلس، بل وسط المدينة نفسه، إلّا أنه مع تعقُّد الأمور تم استدعاء أفراد من الجيش الفيدرالى لمساعدة ضباط الجمارك العاملين على المعابر الحدودية مع الدول المجاورة، وبالفعل.. ففى 25مارس الماضى، وسَّعت الحكومة السويسرية القيود المفروضة على الدخول إلى البلاد لتشمل الدول الأعضاء فى فضاء «اتفاقية شنجن» (تأشيرة الدخول الموحدة لدول الاتحاد الأوروبى)، وبقية الدول الأخرى. ثم كان أن أعلنت الحكومة دخول البلاد فى «وضع الحالة الاستثنائية»، وفرضت حظرًا على جميع المناسبات العامة والخاصة، وأمرت بإغلاق الكافيتريات والمطاعم والمنشآت الرياضية والأماكن الثقافية، كما تم إغلاق جميع المؤسّسات التعليمية، واستثنت المحال التجارية التى توفر السلع الأساسية للسكان مثل محال البقالة والمخابز والصيدليات، إضافة إلى المصارف ومكاتب البريد، وسوف يتواصل العمل بهذه الإجراءات حتى 19أبريل الحالى. وفيما يتم حاليًا إجراء أكثر من 6000 اختبار فى سويسرا كل يوم، حذّر خبراء من أن عدد الحالات سيستمر فى الارتفاع، بينما أعلن المكتب الفيدرالى للصحة العامة أن عدد الإصابات بالفيروس يرتفع بسرعة كبيرة لدرجة أنه أصبح من الصعب تقديم أرقام دقيقة، محذرًا من أن الحالات ستستمر فى الارتفاع.. وبطبيعة الحال دعت الحكومة السويسرية السكان للبقاء فى المنازل، وعدم مغادرتها إلّا فى حالة الضرورة القصوى. مؤكدة أن الإمدادات اليومية من الأدوية والمواد الغذائية متوافرة ومضمونة، ولكنها اضطرت يوم 18مارس إلى الإعلان بأنها ستبدأ فى تقنين بيع بعض المسكنات الشائعة ومضادات الحُمَّى- من بينها الباراسيتامول والإيبو بوفين- وقالت إن ذلك لا يعود إلى نقص هذه الأدوية فى السوق، بل لمنع التهافت المفرط عليها.. كما نصحت الحكومة - بشكل خاص- المرضى والأشخاص الذين يبلغون 65 عامًا أو أكثر بالتزام منازلهم، لكن بعض المناطق ذهبت إلى أبعد من ذلك ومنعت الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فما أكثر من مغادرة منازلهم إطلاقًا باستثناء زيارات الأطباء أو المشى لمدة ساعتين فقط، وحتى مطاعم الوجبات الأمريكية السريعة نفّذت- بعد التحذيرات الحكومية- سياسة تقليل عدد المقاعد والمناضد؛ بحيث يجلس رواد المطعم متباعدين لمسافة لا تقل عن 30سم . أيضًا قررت الحكومة تأجيل الاقتراع العام الذى كان مقررًا إجراؤه يوم 17 مايو المقبل والذى يتضمن اقتراحًا يدعو إلى إلغاء اتفاق مع الاتحاد الأوروبى بشأن حرية تنقل الأشخاص، وسوف يتم إقرار موعد جديد خلال الفترة المقبلة. كما تتوقع العديد من المؤسّسات والبنوك حدوث ركود خلال هذا العام، يليه انتعاش فى عام 2021-م إذا تم التخلص من الفيروس فى الأشهُر المقبلة - ما دعا الحكومة إلى توفير حزمة مساعدات مالية كبيرة - نحو 33 مليار فرنك- بهدف مساعدة الشركات على تجاوُز الانكماش الاقتصادى الناجم عن انتشار فيروس «كورونا». هنا شمال إفريقيا نظرًا لوجود العديد من المنظمات الدولية، فمن البديهى أن تكون جنيف أحد أبرز مدن أوروبا التى تضم الكثير من الجنسيات المختلفة، حتى إنك فى بعض الأحيان تتصور أن هذه المدينة تضم جميع جنسيات الأرض كلها عدا «السويسريين»(!!). ويُعتبر الجزائريون من أبرز الجاليات العربية فى جنيف، يليهم المغاربة ثم التوانسة، وهذا شىء بديهى بحُكم إجادتهم اللغة الفرنسية- إحدى اللغات الرسمية فى سويسرا بعد الألمانية والإيطالية والرومانية، بل إن هناك كثيرين منهم يمتلكون مطاعم مكتوبًا عليها «لحم حلال» للفْت أنظار الزُّوار العرب، كما أن منهم أصحاب محال بقالة يقومون باستيراد المياه الغازية وعلب الفول.. إلخ، من الجزائر ومصر وهى بضائع تلقى رواجًا كبيرًا بين العرب. أمّا بالنسبة للمواصلات العامة؛ فهى نموذج للدقة والالتزام فى المواعيد والمتعة فى التنقل واكتشاف جنيف وضواحيها، بل المدن الفرنسية الحدودية، ومعظم الفنادق تقدم لنزلائها اشتراكًا مجانيًّا على جميع خطوط الأوتوبيس والترام والترولى باص طوال فترة الإقامة، وهو نوع من تنشيط السياحة، لكننا هذه المرّة - بعد قرارنا بالإقامة بإحدى القرى الفرنسية- قمنا باستئجار سيارة؛ حيث قام أحد زملائنا باستخراج رخصة قيادة دولية من «نادى السيارات» بوسط القاهرة وتم حجز السيارة عبر الإنترنت وقمنا باستلامها من مقر الشركة بمطار جنيف، ولكنها بكل المقاييس لم تكن تجربة ناجحة من جميع النواحى ولا أنصح أحدًا بها!. بحيرة مبهرة وتُعد بحيرة جنيف أحد أهم معالم المدينة، بل أوروبا، وهى بالفعل كذلك، وتمتد حتى الحدود الفرنسية، ويمكن القيام برحلة بحَرية لمدة ساعتين لمشاهدة معالم جنيف، كما أن هناك رحلة أخرى تصل داخل الحدود الفرنسية- دون النزول- وتستمر لأربع ساعات، أمّا إذا كنت من عشاق الريف الفرنسى، فهناك أوتوبيس أشبه ب «الطفطف» يأخذك من أمام البحيرة فى جنيف، لإحدى القرى مثل «إيفوار» فى حدود 45 دقيقة، مع إمكانية العودة عبر البحيرة ودفع مبلغ مالى إضافى، وقد استحدثت جميع هذه الرحلات بعروض مميزة بعد انضمام سويسرا للاتحاد الأوروبى فى ديسمبر 2008م. قهوة المصريين وتُعتبر «قهوة الأهرام» أو قهوة المصريين- كما يحب أن يسميها رُوُّادُها من العرب والمصريين- من أهم المقاهى العربية المعروفة للجميع وتقع فى وسط المدينة ويمتلكها جمال حماد - رئيس بيت العائلة المصرية بجنيف- وهو من الشخصيات المصرية الجميلة الذى يفتح قلبه والكافيتريا لكل العرب والمصريين، كما أنه يرتبط بعلاقات ممتازة مع المسئولين والإعلاميين المصريين الذين يأتون لجنيف. ولا يفوتنى هنا أن أذكر أن المطاعم التركية موجودة بكثرة فى شوارع جنيف وتقدم الشاورما (لحم وفراخ) ويطلقون عليها «كباب»؛ حيث يتم خلطها بكل أنواع السَّلطات وتقدم فى طبق بنحو 18 فرنكًا، أى ما يعادل نحو 295 جنيهًا مصريًّا. وعلى ذِكْر الفلوس؛ فإن جميع الأماكن فى جنيف تقبل التعامل باليورو والبعض يقوم بحساب اليورو بفرنك، بل يعطيك الباقى فرنكات سويسرية، وهو أمرٌ غير محمود بحُكم أن اليورو أعلى من الفرنك، وإن كان ذلك يٌعد نوعًا من التسهيل على الوافدين والسياح، وهو نفس ما ينطبق على المحال والمراكز التجارية والمطاعم بالقرى الفرنسية الحدودية، التى تقبل التعامل بالفرنك السويسرى وتعطيك الباقى يورو. ولا يمكن أن تكون فى سويسرا وتغفل أهم ما يميزها الذى يركز عليه جميع الزوار والذى ينصب على شيئين هما الشيكولاتة بأنواعها وأحجامها المختلفة والساعات بجميع أشكالها التى تستقبلك منذ وصولك لمطار جنيف الدولى، وأسعارها تتراوح ما بين 100 فرنك حتى 10الآف فرنك، أى نحو 165 ألف جنيه مصرى، وهناك ماركات سويسرية «محلية» لا يتم تصديرها، بينما سعر بعض الساعات السويسرية - المعروفة لدينا فى مصر- يكاد يكون واحدًا اللهم إلا بعض الفروق الطفيفة، وإن كان ما يطرح فى الأسواق المصرية موديلات أقدم. .. ويبقى فى النهاية، أن فيروس «كوفيد 19» المعروف اختصارًا باسم «كورونا» قد قلب الحياة فى بلد العمل والمال وسياحة الصفوة، رأسًا على عقب ليغير الكثير من عاداتها وأسلوب حياتها، لكن الجميع يتطلعون لزوال هذه الغمة فى القريب العاجل.