مع افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب لا يمكن أن تفوتنى الفرصة لكى أنوّه من جديد بضرورة وأهمية القراءة فى حياتنا. إنها حقيقة لا جدال فيها حتى بالنسبة للأجيال الجديدة. وهذا أمرٌ يجب أن ينال قدرًا أكبر من اهتمامنا بدلًا من تكرار القول إياه بأن الزمن قد تغير والكُتُب صارت موضة قديمة خلاص!. وإذا كانت المجتمعات المتقدمة تكنولوجيّا واقتصاديّا لم تتوقف بَعد عن تبنّى أهمية القراءة وتوظيفها لزيادة الوعى (مع ما تشهده وتعيشه من وثبات عملاقة) فما بال المجتمعات التى تجتهد لكى تتطور وتنمو اقتصاديّا واجتماعيّا وفكريّا. معارك الوعى والإدراك والقدرة على التمييز تحتاج إلى كُتب وكُتَّاب (جمع كاتب) وقُرّاء ونقاشات جادة للمطروح من الأفكار والآراء المختلفة من أجل السعى لمستقبل أفضل. لم نعلن بعد وفاة الكتاب.. يقولها صراحة بشكل أو آخر كل دار نشر أمريكية معنية ومهتمة بالكتاب، هذا المنتج الفكرى والثقافى والإبداعى، وأيضًا يذكرها بوضوح أهل النقد والتقييم المهمومون بثمار المطابع. إن عرض الكتاب وقراءته بعين فاحصة من أجل تقييم مضمون الكتاب وقدرة الكاتب على معالجة هذا المضمون له باب يومى فى الصحف الأمريكية الكبرى، كما أن الحوارات المعنية بتفاصيل الكتاب تقرأها أكثر من مرّة أسبوعيّا مع المؤلفين حول الجديد من نتاج كتاباتهم. وهذه الحوارات إمّا تنشر مطبوعة فى الصحيفة أو تبث مسموعة فى الشبكات الإذاعية ومواقعها الإلكترونية، هذا بالإضافة إلى ما تنشره الصحف الكبرى أسبوعيّا من ملحق خاص أو صفحات مخصصة للكتاب لتقييم وتحليل الكتب الصادرة حديثًا. الكتاب الجيد دائمًا فى حاجة إلى التفاتة وقراءة واهتمام وإشادة لكى ينتبه القراء. والقارئ يريد أن يمسك بيده شخصًا ما يدله على ما هو جيد من المنشور. وهنا يأتى دور الصحف والمجلات وأيضًا وسائل الإعلام فى القيام بهذه المهمة الضرورية. وذاكرة هذه المجلة «صباح الخير» تنبهنا بالتجربة المميزة والمهمة التى قام بها الأستاذ الكبير علاء الديب تحت عنوان «عصير الكتب». ولا بُدّ من التذكير دائمًا بأن السؤال الأهم والتحدى الأكبر فى هذا الأمر هو: مَن يقوم بتقييم الكتاب؟ وكيف يقوم به؟ وبلا شك ثقة القارئ فى اختيارات هذا القارئ المحترف للكتاب لها دور فى استمرار التواصل بين القارئ والإصدار المهتم بمتابعة الكتب وإثراء معرفة القارئ وتوسيع مداركه. صحيفة نيويورك تايمز (على سبيل المثال) وهى تستقبل العام الجديد بجانب اهتمامها بحصاد العام الماضى (2019) اهتمت بلفت الانتباه إلى كتب بعينها يجب أن تحظى باهتمام القراء فى العام الجديد أيضًا، ومنها كتاب اسمه «ترامب وجنرالاته: تكلفة الفوضَى» لبيتر بيرجن الكاتب والخبير فى شئون الأمن القومى ومحاربة الإرهاب. والكتاب يتناول بالتفاصيل علاقة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مع الجنرالات والقيادات العسكرية التى عملت وتعمل معه فى عملية صُنع القرار الأمريكى. وكيف أن هذه العلاقة تطوّرت وتدهورت على مدى السنين. والصحيفة ذاتها ترشح رواية جديدة للكاتبة التركية الشهيرة اليف شافاك عنوانها «10 دقائق و 38 ثانية فى هذا العالم الغريب»، تتناول فيها الكاتبة مقتل غانية وكيف أن قبل يتوقف مخها تمامًا من أداء مهامه (المدة المحددة فى عنوان الرواية) بدأت تسترجع رحلة عمرها وتسترجع ذكريات وأحلام سنوات فرحها وألمها فى إسطنبول. وجدير بالذكر أن روايات وكتب الكاتبة الأمريكية تونى موريسون التى رحلت عن دنيانا العام الماضى سلطت عليها الأضواء من جديد فى الفترة الأخيرة، كما أن محاضرات ومقالات لها على مدى سنوات عمرها تم تجميعها فى كتب صارت فى قائمة الأكثر مبيعًا فى الشهور القليلة الماضية. ولا شك أن كتابات المرأة سواء كانت أمريكية أو غير أمريكية من جميع بقاع العالم صارت مادة مطلوب قراءتها.. كما أن الندوات التى تُعقد لمناقشتها أصبحت ساخنة جدّا بالقضايا التى تطرح وبالحماس الذى تناقش به تلك الأمور. ولعل أبرز عادة مرتبطة بالقراءة والكتب يتم تكرارها سنويّا هى قيام الملياردير بيل جيتس مؤسّس شركة مايكروسوفت بتقديم قائمة كتب للقراءة. مبادرة مماثلة يقوم بها باراك أوباما الرئيس الأمريكى السابق من أجل تشجيع الأجيال الجديدة وعشاق القراءة على اختيار الكتب التى تزيد معرفتهم بما يحدث فى عالمنا وأيضًا تساهم فى توسيع مداركم.. وإحاطتهم بما يحدث فى العالم. • قراء عظماء وكلماتهم عن القراءة القراءة «مفتاح فهم العالم».. هكذا قال آلبرتو مانغويل (الرجل المكتبة كما يوصف) الأرجنتينى الكندى الذى حكى حواديته لحُبه الكبير وولعه العظيم للكتب ولتاريخ القراءة، أمّا هوزيه ساراماجو الكاتب البرتغالى الحاصل على جائزة «نوبل» للآداب لعام 1998 فله توصيف لدور القراءة فى حياتنا جدير بالاهتمام، إذ يكتب: «.. بعض الناس يمضون كل حياتهم وهم يقرأون، ولكنهم فى قراءتهم لا يتجاوزون تلك الكلمات الموجودة على الصفحات.. إذ إنهم ربما لا يفهمون أو لا يدركون أن تلك الكلمات مجرد أحجار وضعت بعرض نهر سريع الجريان.. وإن سبب وجودها هناك أن يكون فى إمكاننا المشى عليها والوصول إلى الشط الأبعد».. ثم يضيف: «إن الجانب الآخر هو الذى يجب أن يعنينا». أمّا عباس محمود العقاد فقد عبّر عمّا يشعر به عاشق القراءة عندما كتب: «..أهوى القراءة لأن عندى حياة واحدة فى هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفينى، ولا تحرك كل ما فى ضميرى من بواعث الحركة». والعقاد ليس وحده فى هذا الشعور بأن حياة واحدة لا تكفيه. ثم ذَكر العقاد: «أما مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل وتذوق الحياة، فإذا وجدت ذلك فى كتاب ما، كان جديرًا بالعناية والتقدير»، وهذا المقياس (إن شئت) يمكن أن تستعين به وأنت تختار الكتب وأنت تقرأ الكتب. • المختصر والمفيد ما يمكن استنتاجه من حضورى لنقاشات حول مستقبل القراءة والكتب: لم يتم بعد إعلان وفاة الكتب، وأن الكتاب المطبوع لم يَعد أثرًا تاريخيّا عفى عليه الزمن، بل لايزال حيّا يُقرأ. الكتاب الإلكترونى قد يشغل حيزًا من نسبة القراءة والقراء إلّا أن الكتاب الورقى أو التقليدى (إذا جاز التعبير) فلايزال يتمتع بالأغلبية بين أهل المعرفة وبالشعبية الكبرى على امتداد الأجيال المتعددة، كما أن المكتبات العامة والاستعانة بها واستعارة الكتب منها تُعد ظاهرة منتشرة وبكثرة فى الولاياتالمتحدة (رُغم العراقيل المالية والإدارية التى قد توضع من حين لآخر أمامها).. ويجب التذكير هنا أن الهدف فى نهاية المطاف هو قراءة الكتاب أكثر من كونه اقتناء أو امتلاك الكتاب، ومَهما قيل وذُكر فإن تقليب صفحات الكتاب والقراءة بعمق وتأمُّل وتمهُّل تأخذنا إلى الشط الأبعد.. والى آفاق لم نعرفها من قبل.. إنها متعة القراءة وبهجة الكتب.