الحديث عن الكتاب والقراءة حديث متواصل ومتجدد وأيضا حديث مفضل ومحبوب حتى في زمننا هذا في القرن الحادي والعشرين. فالكتاب بدفتيه وصفحاته وسطوره مازال «حيا يقرأ» في كافة بقاع العالم ولم يتم بعد الإعلان عن وفاته كما يهلل البعض وأيضا مثلما يفسر هذا البعض ويبرر «تهليله» بجهله المتواصل وتجاهله المتجدد لتطور الانسانية ومعارفها وانجازاتها الفكرية والعلمية والابداعية. وكثيرا ما تكررت على مسامعنا«اقرأ كأنك تعيش أبدا .. واكتب كأنك تموت غدا». بهذه الكلمات حرص الكاتب الصحفي كامل زهيري أن ينقل نصيحته و«سرا من أسرار صنعته» ووصيته الأبوية للأجيال الجديدة .. في مواجهة تحديات الغد. .............
وبما أن مصر تعيش هذه الأيام أيام معرض القاهرة للكتاب فمن الطبيعي أن يجدد عاشق القراءة والكتب عهده على مواصلة مساره واختياره وشغعه للمكتوب وأن يسأل عن الجديد المنشور منه وأن يبحث أيضا عن المطروح والمثار من الأفكار والرؤى في هذا اللقاء السنوي للعقول والقلوب وهي تنطلق وتحلق وتنبض وتنتفض وتغضب وتحزن وتكتئب وتبدع وتفكر وتتكلم وتصمت أمام ما يحدث في الحاضر وما قد يحدث في المستقبل.انه معرض الكتاب والذاكرة والحلم والتجديد والتغيير.. ومعرض لصفحات جديدة في انتظارنا .. ونحن أيضا في انتظارها.
وبما أن عشق القراءة وكيفية تعلمه أو ممارسته هم الهم الشاغل فإن ما يشغلني دائما ليس فقط ما يكتب وما ينشر من الكتب ( من مضمون وشكل وأسلوب تناول أو معالجة) بل كيف يتم التعامل مع هذا الكاتب وذاك الكتاب وأيضا أين القارئ مع ظهور كل كتاب جديد؟.هذه الحالة الإبداعية التواصلية الجميلة التي يتمناها كل كاتب ويتوق اليها كل قارئ شغوف بمتابعة ومعايشة كل ما هو مكتوب وجديد ومبدع ومثير للخيال وما يعد اضافة للتجربة الانسانية واثراء للمعرفة. وكم كان عباس محمود العقاد معبرا عن ما يشعر به عاشق القراءة عندما قال: «.. أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة» وذكر أيضا «أما مقياس الكتاب المفيد فانك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل وتذوق الحياة،فاذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديرا بالعناية والتقدير، فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها»
أما هوزيه ساراماجو الكاتب البرتغالي الحاصل على جائزة «نوبل» للآداب لعام 1998وهو يتحدث عن دور القراءة في حياتنا يكتب: «.. بعض الناس يمضون كل حياتهم وهم يقرأون ولكنهم في قراءتهم لا يتجاوزون تلك الكلمات الموجودة على الصفحات .. اذ أنهم ربما لا يفهمون أو لا يدركون أن تلك الكلمات مجرد أحجار وضعت بعرض نهر سريع الجريان.. وان سبب وجودها هناك أن يكون في إمكاننا المشى عليها والوصول الى الشط الأبعد» مضيفا: «ان الجانب الآخر هو الذي يجب أن يعنينا» وساراماجو يذكرنا أيضا:» كل إنسان منا يملك قطعة أرض ليفلحها. والأمر المهم هو أن يحفر بعمق»
والقراءة بعمق وتأمل وتمهل تأخذنا الى الشط الأبعد .. والى آفاق لم نعرفها من قبل. ولذلك قد نتساءل مع معرض الكتاب والتجديد هل صرنا في السنوات الاخيرة نتكلم أكثر مما نسمع؟ وهل أصبحنا نكتب أكثر مما نقرأ؟ وهل فقدنا الاستعداد على طرح أسئلة جديدة في حياتنا بعد أن فقدنا الرغبة في ايجاد أجوبة صادمة ؟ أم أننا مللنا بوجه عام من المحاسبة والمكاشفة و«جلد الذات». وصاحب «الخبز الحافي» الكاتب المغربي محمد شكري كان جريئا عندما قال: «لم تكن لدينا مرآة في الدار،لأن لا أحد منا كان يريد أن يرى وجهه فيها». ويوسف ادريس كان محقا عندما نبهنا بكتابه»أهمية أن نتثقف يا ناس». أما د. زكي نجيب محمود فقد حذرنا بكتابه «مجتمع جديد أو الكارثة». وبما أننا نسأل دائما أنفسنا والآخرين ماذا نريد ولا نريد من حياتنا ومن الأجوبة النموذجية التي نكررها على أنفسنا وأيضا من الأسئلة المعتادة الخائفة حينا والمترددة حينا آخر؟ ونتساءل ماذا عن ما يسمى بالسعى للمعرفة وتحصيل العلم والتحليق بالخيال؟ أم أننا (كما يبدو) مع الأسف «يريحنا» استسلامنا لحواديت المؤامرات وأساطير العنتريات فلا داعي «نتعب روحنا .. وعيوننا في القراءة». وما يلفت نظرى أيضا كلما تحدثنا عن القراءة والكتاب أن يأتي الحديث المتكرر و»الواثق من نفسه» عن الكتاب الالكتروني و«ضربته القاضية» للكتاب الورقي أو الاعلان عن وفاة الكتاب. وكل هذا يعد بلا شك هروبا ومراوغة من مناقشة الأمر الأهم وهو أننا لم نعاد القراءة في مجتمعنا وليس للكتاب مكان في حياتنا. كما أن ابتعادنا عن القراءة والمعرفة أو «استهزاءنا بالكتاب واحتقارنا له» لا يعني أبدا ولا بأى شكل من الأشكال أننا نتماشى مع روح ومتطلبات وضرورات العصر الحديث. ولمن يعنيه الأمر الكتاب الورقي مازال مطلوبا ومرغوبا من كل الأجيال. كما أن القراءة ضرورية ومصيرية في هذا الزمن المتجدد دوما. وأن مضمون ما يقرأه المرء سواء كان ورقيا أم الكترونيا مازال يشغل بال الكاتب والقارئ معا في العالم كله..
منذ سنوات طويلة تقترب من ال40 عاما قال الشاعر نزار قباني في رثاء عميد الأدب العربي طه حسين «عد الينا .. فان ما يكتب اليوم صغير الرؤى صغير المعاني» وقال أيضا:
«عد الينا .. فان عصرك عصر
ذهبي .. ونحن عصر ثاني
سقط الفكر في النفاق السياسي
وصار الأديب كالبهلوان
يتعاطى التبخير .. يحترف الرقص
ويدعو بالنصر للسلطان»
ترى ما قاله نزار حينئذ (من 40 عاما) يمكن قوله اليوم أيضا؟!
ولا يمكن الحديث عن الكتاب والتحديات التي يواجهها دون الاشارة الى الرواية الشهيرة «فهرنهايت 451» لكاتبها الأمريكي راى برادبري. والرواية أثارت ضجة كبيرة وقت صدورها في عام 1953ومازالت تهز ضمائر عشاق الكلمة والمعرفة في العالم ويتذكرونها. وهي الرواية التي قرأها الأجداد والآباء والأحفاد على مر العقود ليقفوا «دفاعا عن الكتاب» ويتأملوا بحذر وخوف وأيضا يعربوا عن قلقهم وغضبهم تجاه رغبة السلطة الاستبدادية وأساليب أصحاب القرار في التخلص من الكتب بمنعها أو احراقها. واسم الرواية مستمد من درجة حرارة حرق الكتب. والرواية تحولت الى فيلم عام 1966 من اخراج الفرنسي فرانسوا تروفو ليدور النقاش بشكل أوسع وأكبر حول حماية الكتاب أمام توحش التليفزيون وبطش الشمولية وأيضا من أجل الدفاع عن حق الانسان وحريته في المعرفة والاختيار والخيال والابداع.ويقول الكاتب الشهير عن حياته:» ..عندما ولدت كانت السيارة في ال20 فقط من عمرها. والراديو كان غير متواجدا في حياتنا وكذلك التليفزيون.اذن أنا ولدت في الوقت المناسب لكى أكتب عن كل تلك الأشياء ومن هنا جاءت كتاباته ليضع في سطور قصصه القصيرة (أكثر من ستمائة قصة) وثنايا رواياته (أكثر من 27 رواية) تفاصيل حياة لم يكن عاشها بعد قارئه واختراعات لم يكن قد استعملها من قبل من التقى بسطوره.وما يلفت الانتباه في حياته أن برادبري لم يتمكن من الذهاب الى الجامعة ولكنه واظب على ارتياد المكتبات ونهل من أرففها الآداب والعلوم والحكمة والمعرفة. وقد بدأ الكتابة مبكرا ولم يتوقف ولم يكل أو يمل أو يتكاسل فكانت الحصيلة ضخمة ومتنوعة وممتدة عبر 70 سنة كتابة وبيع أكثر من 8 ملايين نسخة من كتبه في 36 لغة. وجدير بالذكر أن برادبري في السنوات الأخيرة من حياته حرص على الدعوة والمشاركة والمساهمة في حملات للاهتمام بالكتب والمكتبات العامة. وهو يتحدث بعشق عن وحب عن الكتاب «النسخة الورقية الأصلية» يشير الى تفضيله إياه على النسخة الالكترونية فيذكر أن للكتاب الورقي رائحة مصر القديمة! وفي موقف آخر وهو يشير الى كتابة روايته الشهيرة يقول: «كيف استطعت أن أكتب كل هذه الكلمات في زمن قصير؟ استطعت بفضل المكتبة. فكل أصدقائي وأحبائي فوق الأرفف كانوا يصرخون في وجهي كى أكون مبدعا وأنا كنت أصعد وأهبط السلالم جريا لكى أجد كتبا وعبارات منها أستخدمها في روايتي القصيرة «رجل المطافئ» وكان هذا هو الاسم الأول للرواية الشهيرة». ثم يضيف: «وعليك أن تتصور كم كان مثيرا أن تكتب كتابا عن حرق الكتب وذلك في حضرة المئات من أحبائي فوق الأرفف. لقد كان أفضل طريقة لي لكى أكون مبدعا. وهذا هو ما تفعله المكتبة. رواية «فهرنهايت 451» بدأ برادبري كتابتها وأتمها في تسعة أيام في بدروم بمكتبة جامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس. واستخدم برادبري آلة كاتبة قام باستئجارها. والكاتب الأمريكي الكبير رحل عن دنيانا في يوم 5 يونيو 2012 وكان في ال91 من عمره. برادبري كان حريصا على أن يؤكد وأن يطالب قبل وفاته بسنوات أن تكتب فقط على شاهد قبره عبارة»مؤلف فهرنهايت 451»
.............
إن القراءة «مفتاح فهم العالم» هكذا قال آلبرتو مانغويل وحكى حواديته لحبه الكبير وولعه العظيم للكتب ولتاريخ القراءة. كما أن القراءة مفتاح فهم أنفسنا.. ولعل من أعمق ما قيل عن القراءة هو أننا من خلالها نتعرف ليس فقط على الآخرين بل على أنفسنا. كما أننا نقرأ سطورا عديدة في نفوسنا كانت خافية ومجهولة بالنسبة لنا .. إذ لم تظهر تلك الكلمات ولم نتبين تلك المعاني إلا بعد أن قرأنا كاتبا بعينه وسطورا بعينها .. وقد قرأناها بأعيننا.