فى محطة مصر يجتمع ناسها وتتلاقى شخوصها. من بحرى أو من قبلى. يجتمع فيهم الكبرياء والتواضع والسعى لتحقيق الآمال.نلتقط مزاج اللحظة دون تدخل فيما قبلها أو بعدها.يجسدون كبرياء الفرعون وصلابة الجنوبى ووجع المكافح.هى وثيقة لمجتمع ننتمى إليه..وناس نخلد وجوههم.. رغم أنه ليس معممًا، بل يرتدى الملابس العصرية: قميص ذو ياقة بيضاء، نظيفة، لامعة، مفرودة بعناية، ومن فوقها «جاكتة» كحلى على كاروه، بنطلون مفرود من غير ترهل، رغم هذا الزى المعروف فى أوساط البندر، من أبناء الطبقة الوسطى، فإنه رجل خمسيني يبدو أنه صديقًا له، يناديه «الشيخ حسين»، يللا يا شيخ الجطر هيفوتنا.. حاسب المحفظة يا شيخ هتجع.. أنا هروح أديب تذكرتين يا شيخ، الشيخ حسين، متوسط القامة، ممتلئ بغير اكتناز، وهو يعمل ساعيًا بإحدى الوزارات فى العاصمة قريبًا من ميدان رمسيس، حيث تقبع محطة مصر، وإلى جانب هذا فهو حلاق فى أحد الضواحى، ولإطلاق لقب «شيخ» عليه سبب يدعو للفخر، فذات يوم كان هنا فى محطة مصر يتأهب للسفر إلى بلدته، ووجد حافظة بنية اللون، منتفخة بالأوراق النقدية فئة المائة، والمائتين، والخمسين من الجنيهات التى تسر عين الناظرين، بهدوء شديد ورغم أنه يقرأ ويكتب ويحسب، إلا أنه رفض مجرد النظر وعد الفلوس «ربنا يكفيك شر الشيطان»، فاجأنى الشيخ حسين المزين وهذا لقبه فى قريته جنوب النيل بأنه لا يزال عند عقد الأربعينيات فى نهاياته رغم ملامحه التى تعطى انطباعا أكبر بنحو عشر سنوات على الأقل، ذهب الشيخ وسلم المحفظة فى نقطة الشرطة، وسط عبارات تحية له من المتواجدين رافضًا المكافأة القانونية «ده ربنا جعلنى سبب مش أكتر»، رغم بساطته وامتلاكه لنظرة ورعة يستشعرها العارفون بالله، مع هذا وفوقه، فهو يبدو حاد الذكاء، ذكاء فطرى لا لوع فيه ولا دهاء، سعيد بلقب «شيخ» ولا يفرق معه أن ينادى ب«أفندى.. ولا بيه.. ولا باشا».. يعلق «دول ناس كبرات هنروح جنبهم فين»! فجأة نظر إلى الجاكت من فوق الكتف بفخر وبشعور بالستر قال لى: «الجماعة» استعدوا للشتا وطلعوا البالطو، لكن المطر خير، أنا مبخفش غير من الشمس.. ربنا يكفينا شر نارجهنم.. مضيفًا وكأنه قادم لتوه من محلات باريس: «عندى طاقية شمسية ونضارة ريبال مبسبهاش ال8 شهور صيف..هو إحنا عندنا شتا؟! فى زيارته للقرية كان يحلو له أن يراقب ما يحدث من حوله دون أى سبب واضح لهذه الدراسة، فى بلدنا عندى حتة دكان محندق لما بروح هناك فى الإجازة الكبيرة بسترزق منه «منى أشوف الكبيرة ومنى أجيب مصاريفى»، ولا تعجبنى القصات الموضة «للجدعان»، حاكم الضفاير بتلم الحشرات! كان مشهد حلاق القرية اللى «شربت منه الصنعة يستهوينى، وهو يعمل مفترشًا الأرض جالسًا القرفصاء، ومن أمامه يجلس أبويا مهدى الفلاح مستسلمًا له، وقد ربط منديلاً بحجم الفوطة الصغيرة على جبهة الزبون، وقد عقد عقدة عند منتصف الجبهة يتوسطها مفتاح باب الدار لا يقل طوله عن عشرين سنتيمتر، ثم يلف الأسطى المفتاح بقوة حتى يعتصر جبهة الزبون ليتورد وجه الزبون الذى كان شاحبًا، ويتألم الفلاح لثوانٍ معدودة ثم يبتسم ويسحب شهيقًا عميقًا ويدور بينهما الحوار التالى: عم جلال المزين: حمدا لله على السلامة يا عم عوض عوض: الله يسلمك يا جلال يا أبو إيد خفيفة جلال: إنت كنت تعبان قوى عوض: هو أنا كان عندى إيه؟ جلال: يا راجل قوم صلى.. إنت كان عندك شفشق دم خربان عوض: وراح؟ جلال: أمال أنا كنت بأقرص عليك ليه! جلال: حط قرش تعريفة فى الجردل وقوم خللى غيرك يقعد عوض: ابقى خده يوم السوق.. تصور قرش تعريفة مكنش موجود!!