لم أعد أتذكر سوى مطلع الأغنية التى كانت تبثها الإذاعة لتستقبل بها معنا العام الدراسى الجديد. كان مطلع الأغنية يقول: «يا مدارس يا مدارس، مدرستنا حلوة خالص، يا مدارس يا مدارس ياما كلنا ملبس خالص». وكنا نحمل حقائبنا وننطلق، نقفز ونتمايل مع الأغنية ونواصل ترديدها حتى باب المدرسة. مدارسنا كانت قريبة من بيوتنا وحقائبنا تضم كتبًا وكراسات اليوم الدراسى وفقًا لجدول الحصص الثابت الذى لا يتغير. فى هذا الوقت من العام وتحديدًا فى نهايات شهر سبتمبر. كنا نشعر بلسعة برد خفيفة ولطيفة ومحببة، ما زلنا مع ما نعيشه من تغير مناخى يجعل الجو الحار ممتدًا حتى شهر نوفمبر، ونتحدث عن لسعة البرد فى صباح اليوم الدراسى بحنين إلى ما نصر على تسميته بالزمن الجميل. الزمن الذى كان اليوم الدراسى فيه ست حصص ولم نكن نعرف فترتى اليوم الدراسى، كنا نصل للمدرسة ونقف فى طابور الصباح مكتملى النشاط وأظهرنا مفرودة، وأصواتنا قوية بتحية العلم «تحيا الجمهورية العربية المتحدة». كنت فى المرحلة الابتدائية تلميذة فى مدرسة «ناصر الابتدائية المشتركة بالدقى» وفى الإعدادية كنت تلميذة فى مدرسة «الأورمان الإعدادية للبنات بالدقى». وهذه هى مرحلة التكوين بالنسبة لى تشكل فيها وجدانى ووعيى. بداية من المرحلة الابتدائية اكتسبت عادة القراءة لدرجة العشق، وتعلمت أيضًا أن للكتاب احترامه ويتمثل هذا الاحترام فى الحفاظ عليه نظيفًا ومتماسكًا كما أخذته من فوق أحد رفوف المكتبة وأن أعيده فى الموعد المحدد إن استعرته. كان فى مدرستى الابتدائية مكتبة مخصص لها حصصًا لا تقل فى أهميتها وانضباطها عن حصص المنهج الدراسى، وأمينة المكتبة «أبلة أمينة» تترك لنا حرية اختيار الكتاب الذى سنقضى حصة المكتبة فى قراءته لم يفرض علينا كتابًا ولارؤية. وكان أول دروس هو الاعتراف بإمكانياتى الموسيقية المحدودة فى حجرة الموسيقى. كانت بالنسبة لى حلمًا أتمنى تحقيقه، أتمنى أن أعزف على البيانو وأعيش سحر الموسيقى الذى كنت أعيشه و«أبلة ماريا» تعزف ألحانًا ترفعنى لسماء الخيال وأتخيل نفسى بين السحب أرقص على نغمات البيانو والكمان المصاحب له والتى كانت تعزف عليه تلميذة بالصف السادس الابتدائى، لذا انضممت إلى فريق الموسيقى بمدرستى، ولكننى لم أتجاوز مرحلة الدق بإصبع واحد على أصابع البيانو، فتركت بكل الحزن فريق الموسيقى وانضممت لفريق التمثيل. ترك فشلى فى العزف على البيانو فى نفسى ندبة، طبعًا اختفى مع الزمن أثرها. ولكن لم تختف حتى الآن ندبة فى ذراعى من أثر أحد التطعيمات التى كان يتم تطعيمنا بها ضد الأمراض والأوبئة. فقد كانت «أبلة الحكيمة» المقيمة فى المدرسة تحفظ مواعيد التطعيمات بلا أدنى خطأ يرحمنا من وجع غرز الأبر فى أجسادنا أو طعم المرارة فى جرعات نتناولها عن طريق الفم، ولم تنس يومًا أن تمر على الطوابير والتفتيش على الأظافر ونظافة الأحذية والمريلة، أما الكشف الدورى العام فكان يتم بواسطة طبيب يأتى إلى المدرسة للفحص وفقًا لجدول لا يختل وضعته «الأبلة الحكيمة». القصر الذى عشقته كانت مدرستى الإعدادية فى أحد القصور القديمة بحى الدقى أتصور أن عشقى للعمارة القديمة يعود لارتباطى بهذا المبنى البديع الذى كان مدرستى، والتى بحثت عنها مؤخرًا فلم أجدها فقد تغيرت معالم المنطقة. تمنيت أن أجد مدرستى وأن أدخلها وأصعد على سلمها الرخام، وأتحسس تماثيل النساء العاريات اللواتى يوشكن أن ينطقن من فرط الجمال، أسير فى ممراتها وأتطلع إلى أسقفها ذات الزخارف الملونة، حتى أصل إلى المكتبة وحجرة الموسيقى والملعب وأمارس الألعاب التى كنا نمارسها على الأجهزة الرياضية الموجودة بفناء المدرسة. عرفت بلدى فى رحلات المدرسة تمنيت أن أجد مدرستى وأتذكر مع جدرانها ذلك الضجيج الذى كنا نحدثه ونحن نصطف فى طابور قبل الصعود إلى أوتوبيس الرحلات التى كانت تحرص مدرستى على القيام بها سواء فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية. ففى المرحلتين عرفت هذا البلد العظيم الذى أنتمى إليه واستقر داخلى عشق وفخر بلا حدود لبلدى مصر، كنت طفلة بهرتها الأهرامات وعظمة أجدادها فى المتحف المصرى. كنت طفلة ملكت فى رحلة مدرسية بين يديها المستقبل الذى يخلقه هدير المكن فى مصانع المحلة الكبرى، وألسنة اللهب التى تصهر الحديد فى القلعة الصناعية بحلوان، كنت طفلة كان خروجها من بين جدران مدرستها فى رحلة مدرسية يعنى الثقة فى النفس والانطلاق وتفتح العين والوعى على الجمال فى الحديقة اليابانية ومتحف الشمع والمتحف الزراعى وحديقة الحيوان والأورمان. كنت طفلة عرفت بلدها وعشقتها بين أرجاء مدرستها.