لم أصدق نفسى عندما وجدت فى جدول حصص السنة الأولى فى مدرسة الشهيد أنور الصيحى الإعدادية حصة مخصصة للموسيقى، فلم أكن منشغلاً كثيرًا بما سيحدث بباقى الحصص فى أول أسبوع دراسى، منتظرًا ماذا سيحدث فى حصة الموسيقى. فطوال ست سنوات قضيتها فى مدرسة الكمال الابتدائية بدسوق، بمحافظة كفر الشيخ، كانت الطبلة أو «الدرام» هى الآلة الموسيقية الوحيدة التى اقتربت منها وسمعت صوتها. كان طابور الصباح ينتهى على دقات الطبلة القوية وهى تعزف المارش العسكرى أثناء سير طوابير التلاميذ فى اتجاه الفصول، وأنظر منبهرًا إلى زميلنا عازف الطبلة الصغير بوجهه المحتقن والعرق يتصبب منه فى عز الشتاء، وهو يضرب بحماس وبقوة بعصاه ليخرج الدقات المنظمة حتى يسيطر على الطابور المتحرك ويفرض عليه النظام. كان لصوت الطبلة وقع جميل فى أذنى جعلنى أحاول التقرب والتودد لزميلى الذى كان يحتكر العزف عليها، فربما علمنى أن أدق بقوة وثقة، لأجعل من دقات الأحذية الصغيرة على الأرض نغمًا جميلاً يملأ الدنيا حماسًا وتفاؤلاً، كنت أشعر وقتها - فى ستينيات القرن الماضى- بحاجة شديدة لتعزيز ثقتى بنفسى بشىء يكسر حدة خجلى، حتى ولو بالسيطرة على طابور من الأطفال بالدق على الطبول. مرت سنوات الطفولة سريعًا وانتقلت إلى المرحلة الإعدادية وأصبحت مراهقًا شغوفًا بمعرفة كل جديد، أهمه كيف يصنع الناس الأغانى والألحان الجميلة، فقد كانت أم كلثوم وحليم وغيرهما يتحكمون فى الذوق العام بألحان وكلمات قوية تصعد بالناس إلى أعلى ولا تهبط بهم أبدًا. وسألت نفسى بعدما علمت أن هناك حصة موسيقى فى جدول المدرسة، هل سنتعلم العزف على الآلات الموسيقية؟ هل سيعلمنا المدرس كيف نؤلف الأغانى ونلحنها؟ كنت أعرف القليل عن الموسيقى وفنونها ولم أملك غير انتظار الحصة بلهفة. حتى دخل علينا الأستاذ عمران مدرس الموسيقى، كنت لا أتصور قبلها أن للموسيقى مدرسين، يا الله ما أجمل المدرسة! رغم مظهره العادى، كنت أشعر أن هناك شيئًا مختلفًا فى الأستاذ عمران يجعله ليس كغيره من باقى المدرسين، كنت أشعر أنه متفرد فى كل شىء، بسيط فى كل شىء، كان كما كنت أتخيله قبل أن يدخل علينا الفصل لأول مرة، كنت أعتقد أن مدرس الموسيقى لابد أن يكون تكوينه منسجمًا مع جمال المادة التى يدرسها. كنت أمعن النظر إليه منبهرًا وكأنى أبحث فى ملامحه عن مفاتيح السلم الموسيقى، التى لم أكن فهمت سرها من قبل. كان الأستاذ عمران متوسط القامة فى العقد الرابع من عمره وله ملامح حانية وابتسامة لا تفارقه ويرتدى ملابس رغم بساطتها فإنها كانت تزيده احترامًا وقربًا لنا، نحن التلاميذ الصغار. لم أعرف لماذا اختارنى الأستاذ عمران للذهاب إلى غرفة الآلات الموسيقية لإحضار الأكورديون، هل لأنى كنت أكبر التلاميذ حجمًا؟ أم لأن اهتمامى الملحوظ بحديثه إلينا وتركيز نظراتى عليه جعلته يختصنى بهذه المهمة؟ وحملت الأكورديون ومشيت أطوف به كل أرجاء المدرسة حتى يرانى الجميع. وكأنه شعر بما أريده، كانت أول حصة حديثًا هامسًا عن جمال الموسيقى، بدا لى أنه لن ينتهى، وحوارًا شجيًا عن الألحان الشهيرة التى كنا نسمعها فى الراديو ولا نفهمها. لم يكن مع الأستاذ عمران أدوات تساعده على الشرح غير سبورة سوداء وأصابع طباشير بيضاء، والأكورديون يستخدمه لشرح السلم الموسيقى، ويعزف عليه أحيانًا مقاطع من أشهر أغانى أم كلثوم وعبدالحليم. اقتربت منه وهو جالس يحمل الأكورديون على قدميه ومددت يدى سائلاً: «ممكن ألمسه»؟ فابتسم وقال: «مش إنت اللى جبته» فقلت: «أنا مش عاوز ألمسه وهو شغال، أنا عاوز ألمس الأنغام اللى خارجه منه» لم يستغرب كلامى الأستاذ عمران وقال: «بس كده؟.. وممكن أخليك تعزف كمان».. وبدأ يعلمنى كيف أعزف أولى نغمات مقدمة أغنية «إنت الحب» لأم كلثوم لبساطتها، ومازلت أعزفها حتى الآن كلما وجدت نفسى أمام بيانو أو أورج وأسرح متذكرًا الأستاذ عمران. الشمس بانت من بعيد كلمات: فتحى قورة ألحان:أحمد صدقى غناء: شادية إنتاج: 1954 الشمس بانت من بعيد جاية ومعاها يوم جديد يجعل نهارنا نهار سعيد ساعة مانور الصبح يبان وفتحت له كل البيبان صبح عليَّ وعلى الجيران قال يا ألف نهار سعيد - صحيت بدرى ياستى ليه ياجمالها من بعد الشقا - ويرزقك بابن الحلال الله بقى وبعدين بقى حديكم شربات النجاح وقول لكم فى وقت الصباح يجعل نهارنا نهار سعيد