دخلت (أبلة إكرام) الفصل تسأل عمن يريد الانضمام لفريق الموسيقى، فكنت أول من رحب بالفكرة، واختير الفريق المكون من عشرة تلاميذ من فصول مختلفة، وقف الجميع أمام الآلات بالحجرة المخصصة للموسيقى للتعرف على كل آلة، واختيار ما يروق لهم. شعرت بشيء خاص يجذبني نحو آلة الاكسليفون، تلمست أصابعها الفضية فأخذتني رناتها العذبة، وحملته بين يدي لتبدأ بيننا علاقة حميمة لم تنته بعد، جمعتنا أبلة إكرام بعد اختيار الآلات، فكنت وصديقتي ابتسام نحمل الاكسليفون، أما سلوى فاختارت الأكورديون، وآخرين تنوعت اختياراتهم ما بين المثلث والطبلة والكاستنيت، قبل الانصراف من المدرسة كان في حقيبة كل منا تعهد بالحفاظ على الآلة يجب إمضاؤه من ولي الأمر، تمهيدا لإعطائنا الآلات بالمنزل للتدريب عليها أثناء أجازة نصف العام، التي كانت وقتها شهرا كاملا، وفي اليوم التالي كنا جميعا نحمل الآلات ومعها النوتة الموسيقية، لثلاثة أشياء كان علينا حفظها حفظا جيدا (السلام الجمهوري بعنوان: والله زمان يا سلاحي)، ونشيد بلادي، ثم المارش الذي يعزف بنهاية طابور الصباح. احتضنت آلتي المحببة طوال طريق طويل بين المنزل والمدرسة، يتخلله حقول تزرع سنابل القمح، تشقها قناة صغيرة وقت أن كان الشعار (من لا يملك قوت يومه لا يملك قراره) كنت وأصدقائي نحاول اختطاف إحدى السنابل الخضراء بقفزة قوية فوق الترعة ونحن نتسابق ونقول: (لو أبوك جمال عبد الناصر نط الترعة)، أثناء الأجازة بدأت التدريب الجاد لحفظ النوتة الموسيقية لكنني آثرت أن أبدأ بحفظ السلام الجمهوري كي أعزفه لأبي -رحمه الله- الضابط بالقوات المسلحة لحظة دخوله المنزل، بعد اصطفاف إخوتي وهم يؤدون له التحية العسكرية، يتبادل معنا التحية بابتسامة عريضة تملؤ وجهه الطيب. كنت لا أملّ التدريب والعزف ليل نهار، حتى انتهت الأجازة بإجادتي للألحان الثلاثة لتبدأ الدراسة ويقف فريق الموسيقى بطريقة منظمة قبل الطابور، ويبدأ العزف بصحبة أبلة إكرام، التي كانت بمثابة قائد الأوركسترا. ومن بين أشياء كثيرة تم اختياري كمقرر ثقافي، فتعقد المسابقات داخل المدرسة وخارجها، ونشترك بتوجيه من مدرسينا بفرق التمثيل والغناء والإذاعة والرحلات، وفي كل مجال تبرز مواهبنا وتنمو ليتألق كل منا في نشاطه الذي أحبه وأجاد فيه. شريط الطفولة يعيد نفسه فيأخذني إلى زمن بعيد جميل لم نعايشه كثيرا ومازلنا نحلم به لكنه ترك بصمات محفورة تستدعيها تذكاراتي كلما رأيت مدرس الموسيقى بمدرسة يارا ابنتي، يقف بمفرده يعزف على الأورج في طابور الصباح (كعبه كعبه حبيبي وأنا ألاعبه) وحين تسألني ابنتي باندهاش شديد عن شكل الاكسليفون الذي أحكي لها عنه أو الأكورديون أو أي آلة أخرى وعن حرمانها من العزف على الآلات لعدم وجودها بالمدرسة أو اشتراكها بالأنشطة الثقافية المختلفة، حتى أن الشارة التي تعلقها على صدرها كمقرر ثقافي لا تعرف ما معناها ولا لأي سبب علقتها، وحين سألت مُدرستها عما يجب أن تقوم به من نشاط -مطت شفتيها وقالت: لا أعلم-. كيف إذن نتحدث عن المواهب والطاقات وبناء الشخصية داخل المدرسة وهي توجه المشاعر نحو الفنون الهابطة، وتستبدل الرحلات الثقافية للمتاحف والأماكن الأثرية لدريم بارك وسينما الآنسة مامي، كيف يمكن تشكيل وجدان أطفال المدارس وتنمية مواهبهم وترسيخ ثقافة الانتماء لبلد الأهرامات التي لم يتعرف عليها أبناؤنا إلا من خلال الكروت. في مشروع النهضة الذي نرجوه، نتمنى أن يبدأ ببناء الطفل المصري لأننا تعلمنا في زمن الحلم، أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. Comment *