شعراء وكُتَّاب وفنانون، حملوا على عاتقهم أمانة الكلمة، وشرف حمل السلاح فى حرب أكتوبر 1973، وهم يتمثلون كل ما حدث فى أعمالهم الأدبية، فى الشعر وفى القصة وفى الرواية، وفى الفن التشكيلى.. حرب أكتوبر فى إبداعاتهم منبع إلهام، وتدفق رؤى، وعاطفة متأججة فى أعماق القلوب، وما كتبوه عنها زاد لما سوف يكتبون فى المستقبل، نبع إلهامهم متدفق العطاء. الكثيرون منهم قاتلوا، وحملوا السلاح وكتبوا من شرنقة النار أدباً طازجاً بروح عارمة الشوق للدفاع عن الوطن والزود عن أراضيه.. وفى هذه السطور شهادات من بعض هؤلاء الأبطال الأدباء، الذين عبروا وتغنوا وأنشدوا نشيد عشق الوطن، ورأوا بعين الحب نظرة مستقبلية لازالت تنبض فى كتاباتهم الإبداعية. تنويعات على لحن العبور «تمطر فى أقداحنا السماء / عانقى السماء حُبا وعانقى الشمس التى غذت أكفنا / وأسعفت جراحنا / وعانقت رمالنا رحبا / حبيبتى لم تمت الأشجار فى المساء / ولم تجف الأرض فى الشواطىء البعيدة / فها أنا عبرت خط الموت / أعصر النجوم.. أُشعل الخُطى / أعيد للأم وليدها / أمسح دمع الشوق فى عيونها / لم يبق غير خطوة مع الرمال». هكذا كتب الشاعر أحمد سويلم لحنه مع العبور، وكان قد التحق بالقوات المسلحة فى نوفمبر 1968 مجنداً حتى عام 1974، ويقول فى شهادته لنا عن حرب أكتوبر 1973. أعتقد أن انتصار أكتوبر، من أحد عوامله المهمة هذه العقول التى خططت للحرب، وكانت لديها رؤى جديدة لحل المشكلات. دفتعى دفعة نوفمبر 1968 كانت تتميز بوجود عدد كبير جداً من المؤهلات العليا، وفى تخصصات مختلفة، وكان التحاقهم بالجندية والحياة العسكرية دافعا للإبداع فى فنون القتال وابتكار أساليب جديدة، فاللواء باقى زكى مثلا هو الذى ابتكر وسائل تحطيم خط بارليف باستخدام فكرة اندفاع الماء لإزالة الساتر الترابى المنيع، وقد عرض اقتراحه على الرئيس عبد الناصر فى حرب الاستنزاف، وتم التنفيذ يوم العبور. النصر كان حصاد دراسات دقيقة وعلمية، وثمرة عقول اجتهدت وأبدعت، بالنسبة لدفعتى فى التجنيد، دفعة 1968 فقد اجتمع بنا البطل عبد المنعم رياض، تحدث إلينا، كان متأكدا من طاقات وقدرات هذه الدفعة المؤهلة تأهيلاً دراسيًا عاليًا، جذب إليه قلوب آلاف المجندين. عملت فى سلاح الوقود يسمونه «السلاح الميدانى» لأنه يستخدم فقط فى الحرب، كنا نتدرب على عمليات تموين المركبات المختلفة، وذهبنا إلى السويسوالإسماعيلية، وعندما عبرت إلى الجبهة الشرقية، كان أول ما فعلته أن سجدت على أرض سيناء، قَبلَّت رملها واحتفظت بقبضة منه معى ولاتزال معى حتى الآن، كنت فى دفعة 24 احتياط، ويصف سويلم ساعة القتال (تحت قذائف العدو استطعنا فى وقت قصير أن نضع (تانكات) الوقود الضخمة شرق وغرب القناة، ووضعنا فوقها أغطية بلون البيئة المحيطة بما يُعرف بالتمويه، ومددنا مواسير الوقود بين الشاطئين لنقل الوقود إلى الضفة الشرقية، وكلما استهدف العدو مواسير الوقود فوق مياه القناة كنا نهبط بسرعة وحرفية لإصلاحها حتى يتوفر الوقود، كنا نفعل ذلك بلا توقف، ظللنا هكذا طيلة أيام القتال بل ظللنا فى أماكننا فى حالة استعداد حتى بعد أن انتهى، وتنقلت ما بين الإسماعيلية وبورسعيد والسويس والتل الكبير فى مهمات خاصة). ذكريات الحرب فى خيالى متوهجة، ولا تزال موردا لا ينضب، العسكرية نفسها ألهمتنى الكثير، الجندية جعلتنى شاعراً ولهذا قصة، فلقد أعجبت فى بداياتى بأغنية عبد الوهاب «سلح جيش أوطانك.. واتبرع لسلاحه»، وكان يغنيها بعد العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، ومن شدة إعجابى بالأغنية كتبت على غرارها أولى محاولاتى الشعرية بالعامية، وعرضتها على صديقى الشيخ حسن محرم الحوينى طالب الأزهر حينذاك الذى بشرنى بأننى أملك موهبة الشعر والموسيقى وشجعنى على أن أمضى على درب الشعر. وإلى الآن لازالت كل قصائدى العاطفية أكتبها فتتحول كلها إلى الوطن عشقًا وشوقا، لقد أصبح الكفاح نشيد وجود، وتحقق: «قالت الملائكة: يا أيها الغريب عدت للديار مضى عليك الدهر تأكل النمال منك تأخذك الرياح صيدا / تبعد عن خطوتك المرافىء ولم تُملَّا / مما خُلقت.. لا يقعدك الدوار لا ينالك الهجير سقما مماَ خُلقت.. مما؟». ويستطرد سويلم: «تجربة أكتوبر الشعرية لم يكتب عنها بشكلٍ كافٍ لقد تم رصد التجربة من الخارج، والنقد مثل الإبداع، لابد من معايشة التجربة، فمن ذاق عرف وأرى أن من أبرز المبدعين الذين عبروا عن تجربة الحرب إبداعياً: الشاعر حسن النجار ونصار عبدالله، والروائى د. سيد نجم، وجمال الغيطانى. .. ولقد كتبت العديد من القصائد أثناء حرب أكتوبر منها «يوميات مقاتل»، و«تنويعات عن لحن العبور»، و«أبواب الشمس»، وكتبت مذكراتى بعنوان: «مذكرات الفتى الشاعر» وفيها فصل كامل عن حرب أكتوبر بعنوان: «شاعر تحت السلاح». بطولات وتجارب أما د. حسن البندارى أستاذ البلاغة والنقد الأدبى بكلية البنات - جامعة عين شمس والذى كتب عدة روايات ومجموعات قصصية لعبت فيها حرب 1973 دور البطولة فأثرت فى حياة أبطاله ومنها رواية «فوق الأحزان»، وعبرت قصصه عن بطولات وتجارب نضالية خاضها أبطاله، ويقول: فى شهادته لى «التحقت بالخدمة العسكرية عام 1968، وكنت فى مركز تدريب المعادى، وتدربت على مدفع خاص باصطياد الطائرات، كان قلبى ممتلئا بالشوق لتحقيق النصر لأننا الجيل الذى عرف الأحزان، يوم تنحى عبد الناصر، ذهبت عند تمثال إبراهيم باشا وبكيت، لأننا كنا نحب عبد الناصر، كنا شبابًا غاضبًا، لأنه قَرَّفى وعينا أن الزعيم لا يخطىء، لكننا تجاوزنا الصدمة، وكان تدريبنا عاليا وروحنا المعنوية مرتفعة عندما خضنا الحرب، والحرب عندى فى كل رواية، فى أعمالى الأدبية دائما يوجد محارب، أعبر عن أشواقه للنصر، وتجربته الإنسانية فى قصتى «أناهيد زهرة القمر» صورت ذلك، وفى روايتى «فوق الأحزان»، ولازلت مستعدا أن ألبس الزى العسكرى، وأنا فوق السبعين وأحارب، وهذه المرة أحارب الإرهاب، وفى روايتى: «تحت الأحزان صورت الحرب على الإرهاب بعد ثورة 25 يناير، وفى رأيى أن حرب أكتوبر وحرب الاستنزاف أيضا لم يُكتب عنهما بالشكل الكافى وكما قال نجيب محفوظ: «لن يكتب عن ما حدث فى سيناء إلا العائدين منها، الذى اكتوى بنار الحرب ويملك أدوات الكتابة هو الذى لابد أن يكتب عنها». قصص التضحية والفداء د. أحمد رأفت الناقد والفنان التشكيلى والذى شارك فى حرب أكتوبر 1973 يقول لى فى شهادته: (كنت فى سلاح مشاة ميكانيكا، كنا نتحرك ما بين المركبات العسكرية ومنها البرمائيات التى تمشى على الأرض وفى المياه، ساعة الصفر لم نعلمها إلا قبلها بدقائق قليلة، رأينا الطائرات المصرية وهى تعبر فغمرتنا فرحة غير عادية، وعندما قال لنا قائد الكتيبة إننا بعد ساعتين سنعبر وندخل إلى سيناء ونبدأ المعركة مع إسرائيل، كان العساكر يحتضنون بعضهم من شدة الفرحة، الوحدة التى كان يأتى دورها لكى تعبر يألم الباقون لأنهم كانوا يريدون أن يعبروا. الحرب بطل فى كل لوحاتى بشكل غير مباشر، ومباشر، المواقف الإنسانية والفنون تمتزج معا، لا نرسم لوحة من الخيال بل لوحات حية، عناصر كثيرة من الحياة فيها حتى لو كانت مساحات هندسية بحتة، إلا أنها قصة وبناء عن حكاية حقيقية، نعبر عنها فى الفن بالنقطة، وهى أصغر شكل ممكن، شكل هندسى أو عشوائى، ومجموعة خطوط، ومساحة تمثلها بطرق فنية فللسطوح ملمس، ولكل ملمس تأثير مختلف باللون والخط، وبالقيم الفنية: التنغيم والترديد والتكرار، وبالأحاسيس والانفعالات يتم تصوير اللوحة هكذا رسمت لوحاتى عن حرب أكتوبر. ويستطرد د. أحمد رأفت: «عرفت، وشهدت ألوانا من البطولة، وخاصة فى (الدفرسوار) عندما حدثت (الثغرة) كنا قد حاصرنا ثلث الجيش الإسرائيلى غرب القناة، كانوا فى مرمى أسلحتنا وجاءت الأوامر بوقف إطلاق النار فالتزمنا به، وكنا قد حاصرنا وحدتين إسرائيليتين، وكان ممنوع عنهما الإمداد وكنا ثلاثة فى الموقع: قائد مدفع، والرامى، ومُعمر شريط الذخيرة، كان المدفع يطلق مائتين وخمسين طلقة فى الدقيقة، ومن الممكن أن يصل إلى 400 أو 500 طلقة فى الدقيقة. فوجئنا بضرب نار مفاجىء من الجهة اليمنى من الجانب الإسرائيلى بعد قرار وقف إطلاق النار، فقال بطلنا المجند «مرزوق تغيان يحيى»: «لننصب المدفع جهة الشمال، لقد حضرت حرب 1967، وأعرف مكرهم يضربون عليك من اليمين، ويدخلون عليك مفاجأة من الشمال»، وبالفعل وجدنا الأمر على هذا النحو، وخرج مرزوق من حفرته، ولم يستطع البقاء فيها، طلع وسحب المدفع وترجل وبدأ الضرب، قوات العدو أمامنا تتقدم، سحبت المدفع وهو مصُر على الاقتراب والضرب، اقترب منهم ولم يعد بينهم وبينه سوى خمسة عشر مترًا، طلع من سلاحة ثلاثين طلقة فى الدقيقة أطلقوا النار على أصابع يده اليمنى فأمسك السلاح فى اليد الشمال وقد زرع فى الأرض قدماه، ثم استشهد، ووجدت أخاه بعد أيام وقد لحق بنا وعرف باستشهاده وأراد أن يحارب مكانه، ويبقى معنا على الجبهة، قال: أنا طالب فى كلية الهندسة جامعة أسيوط، ولابد أن أحل محل أخى فى الحرب، سأحارب حتى يرحل أخر جندى إسرائيلى من سيناء فأقنعته بالعودة واستكمال دراسته، وقلت له: إنك سوف تنفع الوطن بعلمك، ودراستك. أثرت فىَّ هذه القصة كثيراً وصورتها بقلمى بعنوان: «تلغراف». مازالت صورة مرزوق تخايلنى، يضرب وتتساقط عساكر العدو تحت وطأة ضرباته، أعرف أسباب قرار وقف إطلاق النار رغم أن موقفنا كان قويًا فى الثغرة، لقد تدخلت أمريكا فى الحرب، وأمدت إسرائيل بإمداد جوى فقبل السادات وقف إطلاق النار. انتصار أكتوبر عظيم أجبر العدو على الخضوع والتسليم بعبقرية أجناد مصر، سقطت أسطورتهم وأقوالهم بأن جيشهم لا يقهر!! انتصارنا كان حصاد أيام عبدالناصر والسادات، فقد كانت هناك متابعة ميدانية دقيقة، وتدريب على أعلى مستوى. فى هذه الحرب كنا نمشى على الألغام نمضى على أثر العربات المدرعة، العربات تمضى وأبوابها مفتوحة حتى نستطيع القفز، وتجنب الانفجار. الصور لا تزال فى مخيلتى، لأننى عشت تجربة الحرب، وقد صورها العديد من الفنانين فى أعمالهم ولوحاتهم، ولقد كتبت كتابا عن ذلك بعنوان: «من فنانى الجنوب»، وذكرت منهم: أحمد خليل، وفاروق ياسين، وإلهام عبدالهادى، وحلمى السيد «من سوهاج» وكتبت عن لوحاتهم عن حرب أكتوبر، كما كتبت عن لوحات العميد حسنى شيبة الحمد وهى لوحات رمزية رائعة وكذلك عن لوحات الحسينى الشريف، والسيد عثمان، وسراج الدين نور الدين، ومصطفى محمود، وأحمد فؤاد، وياسر منصور، وعن الكاريكاتير مدحت صبرى من سوهاج وعن المصورين الفوتوغرافيين الذين صوروا أبطال حرب أكتوبر «عبدالحفيظ رضوان، وساهر النعيم، وأيمن فايز، ومحمد مقدام، وجرجس عطا الله جرجس». •• وتبقى حرب أكتوبر 1973 مصدراً للإلهام، وتجربة إنسانية وحياتية مهمة، وستبقى منبعًا للإبداع فى الفن وفى الأدب، تشكل وعى الفنان والأديب، وتمده بزاد لا ينفد فى التعبير عن قيمة الحياة، وحب الوطن، والانتماء إليه.