ليس المقصود بزمن عبد الناصر هو الستة عشر عامًا التى تولى فيها الرئيس حكم البلاد، بل إن الأمر يمتد إلى سنوات أكثر باعتبار أن السينما جعلت من شخصية الرئيس وحكمه حالة من الجدل المستمر من خلال الأجيال، وأيضًا مناسبات الاحتفال بكل مايتعلق به. وعلى كل حال فقد كان السيد الرئيس من عشاق السينما، وكان التصوير من هواياته، ومشاهدة الأفلام أمراً بالغ الضرورة ، وقد حكى لى الناقد الرقيب السابق مصطفى درويش عن العروض السينمائبة لأفلام مهمة كان يميل إلى مشاهدتها، ومنها على سبيل المثال فيلم «العجوز والبحر» إخراج جون سترجس، 1956، المأخوذ عن رواية لأرنست هيمنجواي، إلا أن الأمر الأكثر أهمية أن عبد الناصر هو رئيس الجمهورية الذى كان أكثر حضورًا للعروض السينمائية الأولى لأفلام ذات أهمية، تفوق بذلك على الملك فاروق الأول، ومنها أفلام أخرجها زميله فى الكلية الحربية عز الدين ذو الفقار، وشارك فى تمثيلها زميل الدفعة أحمد مظهر، وكتب بعضها أيضًا زميله الضابط السابق الأديب يوسف السباعي، ومنها فيلم «رد قلبى» . كما أن أصدقاء آخرين لعبد الناصر من الأدباء وكتّاب السيناريو كانوا حريصين للكتابة عن التغيرات الاجتماعية التى حدثت عقب يوليو 1952 وعلى رأسهم إحسان عبد القدوس،الذى كان أسرع من كتب قصة فيلم عن نشأة وقيام الثورة، وهو «الله معنا»، ثم كتب فيلم «نساء بلا رجال» إخراج يوسف شاهين 1953، الذى صور فيه مجموعة من النساء حرمتهن أمهاتهن من الخروج من البيت حتى جاءت الحياة الديمقراطية كى تخرجهن من القوقعة التى عشن فيها. لكن الأحداث الكبرى المتلاحقة هى التى جعلت السينما تقدم ما لديها تجاه الوطن، وخاصة مع تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، وهنا بدأ التحول الملحوظ فى حياة وعمل عزالدين ذو الفقار. كان عز الدين ذو الفقار هو مخرج أفلام الرومانسية والحركة الأول فى مصر من خلال أفلام منها : «قطار الليل» و «إنى راحلة»، فلما حدث العدوان، وفى أثناء العمليات العسكرية، ووسط المقاومة الشعبية، وقبل أن ينزاح العدوان كان المخرج قد شكل فريق العمل، وابتدأ التصوير بالفعل، وكان طاقم العاملين من الضخامة يعكس مهابة الحدث، جمع كبير من النجوم الممثلين، وتصوير ملحوظ خارج الاستوديو، والغريب أن الفيلم يعرض فى يوليو عام 1957، أى بعد أشهر فليلة من خروج جنود العدوان من مصر، ويكون رئيس الجمهورية ورجاله فى مقدمة الحاضرين لحفل افتتاح الفيلم الذى أنتجه فريد شوقى باسم المدينة المناضلة «بور سعيد» ويكون هذا حدثًا أقرب إلى النصر، إنه ليس فيلما عن الحرب بل عن المقاومة الشعبية للمدينة بأكملها، عن بورسعيد وأهلها تحت الحصار، حينما خرج الجميع كل بطريقته للدفاع عن المدينة، وفى تلك الفترة كان السينمائيون قد دخلوا بقوة فى عمل أفلام أيضًا عن المقاومة، منها فيلم «سجين أبو زعبل» إخراج نيازى مصطفى وإنتاج محمود المليجي، ثم فيلم «حب من نار» إخراج حسن الإمام، أما الفيلم الحربى عن معركة البرلس فباسم «عمالقة البحار» إخراج سيد بدير، فقد كان عن جانب آخر من المعارك، وهكذا كانت السينما، وفنون أخرى كثيرة فى حالة ازدهار ملحوظ. حتى نهاية الخمسينيات، وتوج عز الدين ذو الفقار تحيته لزميل الدفعة عبد الناصر بتقديم فيلم «رد قلبي» عن رواية يوسف السباعى ليؤكد أن الثورة كانت حدثًا وطنيًا كبيرًا ممزوجًا بقصة حب لا تنسي، وفى الفيلم تعمد السيناريو إغفال مرحلة الرئيس محمد نجيب، وهى من الوقائع المكتوبة فى رواية يوسف السباعي، وكان عبد الناصر قد حضر أيضًا حفل افتتاح الفيلم، الذى حشد فيه أكبر عدد من الممثلين والنجوم، وتم تصويرة بالألوان والسينما الاسكوب. فى الستينيات كانت هناك مرحلة أخري، إنها مرحلة البناء الوطنى المصاحب لبناء السد العالي، وتوالت الأفلام التى تصور التحول المرافق لتحويل مجرى النهر منها «الحقيقة العارية» إخراج عاطف سالم 1963، حول بناء السد العالي، و «الناس والنيل» الذى جمع بين التسجيلى والتخيلى إخراج يوسف شاهين، وهو الفيلم الأوحد تقريبًا الذى شارك الاتحاد السوفيتى فى إنتاجه، وكان شاهين هو الذى أخرج الفيلم التسجيلى الوحيد عن تحويل مجرى النهر، فاستفاد باللقطات والمشاهد فى عمل فيلمه الذى لم ينجح فنيًا فأعاد يوسف شاهين إنتاجه وإخراجه مجددا من خلال قصة جديدة واحتفظ فى الفيلم بالجزء السوفيتي، ولعب دور البطولة فيه صلاح ذو الفقار وسعاد حسنى . فى عقد الستينيات الذى ينتمى بأكمله إلى عهد عبدالناصرخرج الكثيرون من صناع الأفلام عن الخط المعروف لكل منهم، وشاركوا فى صناعة أفلام وطنية أغلبها مأخوذ عن روايات، حيث تمتزج الوطنية أيضًا بالقصص الرومانسية، ومنها «فى بيتنا رجل» لبركات عن رواية إحسان عبد القدوس، و«لاوقت للحب» لصلاح أبو سيف عن رواية ليوسف إدريس، كما كانت قضية فلسطين، هى المحور الأساسى فى الكثير من الأفلام، ومنها أفلام عن حرب 1948، مثل «أرض الأبطال»1953 لنيازى مصطفي. و«أرض السلام» لكمال الشيخ، الذى تحول من أفلام التوتر البوليسى إلى الفيلم السياسى مثل: «ميرامار»1969 الذى اعتبر الفيلم الأبرز فى انتقاد الثورة، وأيضًا «غروب وشروق» عام 1970، الذى كتبه واحد من الضباط الأحرار، وكان أشبه فى موضوعه بفيلم «الله معنا» حول بدايات الثورة. فى الستينيات أيضا تسابق السينمائيون لمناصرة الرئيس، ومواقفه، ويبدو ذلك واضحًا فى القضايا الخارجية، خاصة العربية، وعلى رأسها حرب اليمن، فبعد الوقوف إلى جانب الشعب الجزائرى فى نضاله ضد الاحتلال الفرنسى وتناول ذلك فيلم «جميلة» ليوسف شاهين، صورت السينما فيلما عام 1964 عن عودة الجنود من حرب اليمن فى فيلم «منتهى الفرح» إخراج محمد سالم، وهو الفيلم الذى ضم أكبر تجمع فنى لم يكن لأحد أن يتخيله فى تاريخ السينما، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وصباح ومها صبرى وحسن يوسف، كما أن هذا الممثل قام بدور الثائر اليمنى الذى تلقى تعليمه بالجامعة المصرية فى فيلم «ثورة اليمن» إخراج عاطف سالم 1966. حدث كل هذا قبل النكسة، التى أصابت السينما المصرية بحالة ملحوظة من الخرس الى أن نطقت الأفلام بالنصر فى العقد التالي، وهكذا كان على عبد الناصر أن يشاهد أفلام نهاية ذلك العقد وهى تنتقد الثورة برمزية ملحوظة، مثل فيلم «القضية 68» لصلاح أبو سيف، و«ميرامار» لكمال الشيخ. ظل عبد الناصر شخصية رئيسية فى الأفلام عقب رحيله، وكانت أبرز الصور هو المشهد الذى خرج فيه على الناس فى فيلم«العصفور» ليوسف شاهين 1973 معلنا عن الهزيمة، والتنحي، وبدا عبد الناصر المنهزم عسكريا، وقد انتصر فى قلوب شعبه وهم يخرجون إلى الميادين ليهتفوا أننا «حا نحارب»، وقد ظل عبد الناصر حاضرًا فى السبعينيات سينمائيًا من منظور مختلف فى مجموعة أفلام حول مصائر المعارضين لنظامه، وذلك فى أفلام صارت لديها شعبية كبيرة، مأخوذة أيضًا من نصوص أدبية، ومنها «الكرنك» لعلى بدرخان عن رواية لنجيب محفوظ، ثم«وراء الشمس» لمحمد راضي، عن رواية لحسن محسب، ولذا فإن السينما فى تلك السنوات كشفت عن مستور لم يتوقع الناس معرفته، وعندما تولى الرئيس الأسبق حسنى مبارك الحكم فإن الفيلم السياسي، الذى يحاكم السنوات المنصرمة خفت حدته، وفى التسعينيات، تحول جمال عبد الناصر إلى ظاهرة سينمائية تاريخية، وفى عامين متتالين شاهدنا فيلمين تاريخيين عن ناصر، وسنواته، الأول هو«ناصر 56» إخراج محمد فاضل 1996، ثم فيلم «جمال عبد الناصر» إخراج أنور قوادرى وهو المخرج السورى الذى تتبع خمسة وثلاثين عاما من حياة الزعيم حتى وفاته، والعصر الذى صنعه، وكان الفيلمان ينظران إلى ناصر بقدسية ملحوظة، والغريب أن أحمد زكى الذى تألق فى تجسيد شخصية عبد الناصر، قام بإلغاء وجوده تمامًا فى الفيلم الذى أنتجه عام 2002 باسم «أيام السادات» إخراج محمد خان، ويبدو أن أحمد زكى كان يعتز بأنه أفضل من قام بتجسيد شخصية عبد الناصر سينمائيا، فلم يسند هذا الدور لأحد فى هذا الفيلم ، ومع الزمن عشق السينمائيون المصريون التاريخ، وتم تصوير خطاب التنحى فى الكثير من الأفلام كان آخرها فيلم «الممر» 2019، وهى أفلام عبرت عن مشاعر المصريين منذ نكسة 67، ومرحلة حرب الاستنزاف حتى تحقق النصر 1973.