خلاصة ما نشاهده فى السينما الكلاسيكية التقليدية فى العالم، وبالطبع فى مصر، أنها تتوقف عند لحظات التطهر التى يمر بها الإنسان، أو مجموعة من البشر، فينتقلون من حال إلى آخر، إنه التطهر الذى ينشده الإنسان سواء على الجانب الفردى أو الجماهيرى. ومن هنا تم استخدام السينما بكل جدية للتعبير عن حالات التحول إلى الأفضل والتعبير عن النماذج الأمثل فى المجتمع إبان التطور، وقد اتضح ذلك بكل قوة فى علاقة ثورة يوليو بالموضوعات السينمائية التى شاهدناها منذ الخمسينيات وربما حتى الآن، كما يتضح الأمر فى صورة المرأة التى قدمتها السينما فى الغالب. الصورة التى كانت سائدة قى بدايات السينما أن المرأة إما سيدة البيت الخانعة، أو الخادمة التى تقع فى الخطيئة، أو بنت الليل التى تغوى الرجال وتسلبهم أموالهم وسمعتهم ومكانتهم الاجتماعية، وظهر ذلك فى الكثير من الأفلام، ومنها «الطريق المستقيم»، الذى لعبت بطولته فاطمة رشدى، وعلى العكس فقد جاءت الصورة التى قدمتها عزيزة أمير للمرأة فى فيلم «الورشة» بالغة الإيجابية، وهى تتحول إلى سيدة منتجة أثناء غياب زوجها، فأدارت الورشة بعمّالها على أفضل ما يكون، وسوف يُحسب للمخرج أحمد بدرخان الصورة الإيجابية للمرأة فى أفلامه الوطنية وهى تساند الرجل فى قضاياه، مثلما حدث فى فيلمى «مصطفى كامل» و«الإيمان»، وكلاهما من إنتاج 1952، وهو أيضًا المخرج الذى كانت بطلته بالغة الإيجابية وهى تساند رجال الثورة، وأن تُبلغ عن أبيها المنحرف، وتسلم أوراق الأسلحة الفاسدة للثوار فى فيلم «الله معنا» 1955، هذا الفيلم كتبه للسينما مباشرة الصحفى الشاب إحسان عبدالقدوس صاحب مقولة إن هزيمة حرب فلسطين كان سببها الأسلحة الفاسدة، بصرف النظر عن عدم صحة هذه المزاعم التى توارثتها الأجيال، لكن ما يهم هنا أن روايات ونصوص إحسان عبدالقدوس الأدبية كانت أكبر مؤشر اجتماعى عن الحراك نحو مجتمع يعمل على الرقى فى جميع ميادين الحياة، وفى الحقيقة فإن مواقف النساء فى الأفلام كان أكثر وضوحًا وإيجابية مما قرأنا فى الأدب، ولا أعتقد أن هناك كاتبًا آخر كرّس كافة كتاباته لهذا الأمر، وبدأ ذلك واضحًا فى أول فيلم مأخوذ عن كتاباته وهو «أين عمرى» إخراج أحمد ضياء الدين 1956، فلم تتمرد أى فتاة تزوجت وهى صغيرة على زوجها مثلما فعلت علية مع العم عزيز، ولقد تصورت اليتيمة «علية» أن الزواج من الثرى العجوز هو أشبه بواحدة من الألعاب أو الهدايا التى كان يقدمها لها، فلما تزوجت، واكتشفت أن الزواج ملكية وعبودية فى منظور عزيز، تمردت عليه، وسعت للانفصال والعجوز يمتص منها شبابها إلى أن مات وتركها أرملة وهى فى العقد الثانى من عمرها، وصارت امرأة حرة تحاول أن تبحث لنفسها عن خيار أفضل، ورغم تعثرها المؤقت فإنها أجادت الاختيار وعليه فقد تم الانتباه إلى أهمية هذه الحالات الاجتماعية، فى تلك الفترة كان يوسف السباعى غارقًا مع أبطاله فى أجواء رومانسية تناسب القرن التاسع عشر، واهتم المخرج عز الدين ذو الفقار بالرومنسيات رغم أفلامه الوطنية، والبوليسية. ولم يكن عالم الحارات بغوانيها وفتواتها، كما كتبه نجيب محفوظ قد شهد طريقه إلى الشاشة بعد، وشاهدنا نماذج نسائية متقاربة الموقف، لا تمتثل لقانون الرجل الشرقى الأزلى الذى يرى فى المرأة جسدًا ومطامع أخرى، ومن أبرز تلك النماذج ما شاهدناه فى أفلام منها «الطريق المسدود» و«أنا حرة» وكلاهما من إخراج صلاح أبوسيف، وفيلم «النظارة السوداء» من إخراج حسام الدين مصطفى، ولعل هذا دفع الكاتبة لطيفة الزيات إلى تقديم روايتها «الباب المفتوح» لنرى نموذجا نسائيّا مشابهًا، وقد لاقت الرواية والفيلم الذى أخرجه بركات الكثير من الاستحسان بسبب أن الكاتبة تنتمى إلى التيار اليسارى المصرى، رغم أن بركات صور بطلة فيلمه «فى بيتنا رجل» كفتاة تقف إلى جوار الرجل فى القضايا الوطنية أما «الباب المفتوح» فرغم أنه لم يخرج كثيرًا عن عالم إحسان عبدالقدوس فإن النقاد وضعوا إحسان فى خانة اليمين، وهللوا لكاتبات اليسار مثل لطيفة الزيات، والروائية سعاد زهير صاحبة رواية «اعترافات امرأة مسترجلة». وهذا الأمر يوضح أنه من المهم إعادة اكتشاف ما فعلته أفلام مأخوذة عن روايات إحسان عبدالقدوس فى تغيير مسار الحراك الاجتماعى التقدمى بصرف النظر عن الأيدولوجية. تأتى أهمية رواية «الباب المفتوح» أن كاتبتها امرأة وتكتب تجربتها فى الجامعة، ولا نستبعد أن تكون الفتاة الجامعية صورة حية منها، أو شخصية عاشت على مقربة منها، هذه الفتاة تنتمى إلى طبقة اجتماعية متوسطة تحرص على تعليم البنات، ويبدو ذلك فى أعمال إحسان عبدالقدوس خصوصًا بنات العباسية، حيث تحرص الأسر على تربية وتعليم البنات كأحسن ما يكون، وتتحول الفتاة ليلى هنا إلى سلعة فى عيون الرجال إلا أنها ترفض ذلك. حتى من أستاذها الشهوانى الرجعى، الذى تتمرد عليه بعد أن تقدم لخطبتها رغم أن ليلى حالة خاصة من التطهر منذ البداية باعتبارها صاحبة موقف مختلف عمن حولها، فإنها تمر بحالة إضافية من التطهر تبدو فى موقفها الأسرى، من أب متجهم دوما يثير الخوف فى القلب، غليظ السلوك إزاء ابنته، وزوجته، خاصة فى مسألة الزواج، على اعتبار أن الزواج سُترة. هذه البنت التى تنتمى إلى عام 1952 تقف ضد الجميع فى المشهد الأخير فى الفيلم فى محطة قطار القاهرة، حيث تخلع الدبلة وتعيدها إلى أستاذها الرجعى مثل أبيها، وعندما يناديها أبوها فإنها لا تلتفت إليه وتنطلق نحو القطار المتجه إلى بورسعيد كى تلحق بحبيبها حسين الذى سينضم إلى المناضلين ضد الإنجليز، لقد جرؤت الفتاة أن تقول لا، وهى ابنة الطبقة المتوسطة التى تتعلم، وتحرص على الامتثال، إلا أنها اتخذت موقفها الحاسم ضد الكبار كلهم، ولديها أسبابها التى دفعتها إلى ذلك، فهى تعرف أن أباها رجعى مجوف، وأن أستاذها لا يؤمن بما ينطق، وتكتشف أن حبيبها حسين. هو صنو لأخيها الشاب الثورى صاحب الموقف، وكما نرى فإن عالم الدكتورة لطيفة الزيات قريب جدًا من أجواء إحسان عبدالقدوس، نفس الحى تقريبًا، وهو العباسية الذى يسكنه المتعلمون من المصريين بعيدًَا عن الزمالك وجاردن سيتى، كما أن الشخصيات الرئيسية هنا هن البنات فى سن التعليم والتحول، القلوب متفتحة للحب، مرتبطة بالقضايا الاجتماعية والوطنية أكثر ممن حولها، ولا شك أن ذلك كان يتوافق مع السلوك العام فى تلك المرحلة الجدير بالذكر أن الدكتورة لطيفة الزيات اعتبرت صاحبة الرواية الواحدة، حيث لم نقرأ لها رواية بالطزاجة نفسها، وانشغلت بالبحث الجامعى والنقد الأدبى، وهكذا فإن التجربة لم تتكرر نسائيّا بشكل يمثل ظاهرة، سواء أدبيّا أو سينمائيّا، أما إحسان عبدالقدوس فقد صارت المرأة فى كافة أعماله التالية على نفس المناهج، فهناك دوما امرأة مختلفة تقف إلى جوار الرجل، لا تناصبه العداء، بل تبادله الحب وتدفعه إلى الأمام، حتى وإن تعدد أنواع الرجال فى حياتها مثل فاتن البلتاجونى فى « محاولة لعلاج جرحى الثورة» التى تحولت إلى فيلم «آه ياليل يازمن» لعلى رضا 1978، فهذه المرأة التى تنقلت بين أذرع الرجال وهى سليلة الأسرة العريقة، يتلاعب بها طبيب أسنان فى جينيف، وقواد فى باريس، ويهتم بها واحد من ضباط الأمن فى المغرب، قادم إلى هناك من أجلها، هى لم تتغير، لكنها عانت كثيرًا، إنها صورة من نساء إحسان فى السبعينيات، وفى العام نفسه كان هناك أيضًا بركات مع نص أدبى جديد للكاتبة كاتيا ثابت باسم «ولاعزاء للسيدات» حول امرأة طلقها زوجها فعملت فى سكرتارية إحدى الصحف، أحبت رئيسها، الذى تخاذل فى معاملتها عندما تتبعها طليقها، بينما بقيت هى على موقفها، كانت هناك كاتبات جديدات برزت أسماؤهن فى الثمانينات - لكن لم يكن لهن التأثير نفسه الذى تركته لطيفة الزيات - وكان المجتمع على أبواب مرحلة ظلامية ملحوظة.