53 فيلمًا أخذت عن روايات وقصص طويلة وقصيرة ل«إحسان عبدالقدوس».. من (أين عمرى) عام 1954 وحتى (ونسيت إنى امرأة) عام 1994.. كُتاب سيناريو، منتجون، مخرجون، ممثلات وممثلون كثيرون ترددوا على عالم «إحسان»، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يسيطر على هذا العالم أو يفرض وجوده عليه، كان دومًا الحضور الأقوى ل«إحسان» نفسه.. كيف كانت أفلامه، وتحولات الممثلين عنده، لماذا استمر تأثيره، هل طغى عليه الحس السياسى فى بعض هذه الأعمال أم أن همومه كانت أقوى وأعمق، تلك الأسئلة وغيرها الكثير أجاب عنها شيخ النقاد، الأستاذ «كمال رمزى» فى محاولة لإعادة قراءة أفلام «إحسان عبدالقدوس» من جديد. أول رواية تحولت لفيلم سينمائى كانت (أين عمرى) فى رأيك كيف كان تأثير هذه الرواية ومن بعدها الفيلم، على المجتمع فى تلك الفترة؟ (أين عمرى) تسترعى الانتباه بالفعل، لأنها – الرواية ثم الفيلم - من الأعمال التى سبقت عصرها، فمن يهاجمون الحقبة الناصرية تناسوا أن عام 1942 كان المشروع القومى هو (مقاومة الحفاء) وبعد عشر سنوات من ذلك المشروع أصبح المشروع القومى هو (بناء السد العالى وتدعيم حضور المرأة المصرية وبالتحديد البنت المصرية)، فأولاً افتتحت العشرات من مدارس الثقافة النسوية وبدأت أعداد ضخمة من البنات يلتحقن بالجامعة فى واقعة هى الأولى من نوعها.. فازداد حجم التعليم بعد عام 1954. لذلك كان من الطبيعى أن يطرح سؤالاً يتلخص فى كلمتين (أين عمرى؟)، فالمرأة بدأت مشوارها بالتساؤلات متى كنت؟ وكيف كنت؟ وما أنا عليه الآن؟. ثم، ما هو شكل مستقبلى؟. هذه الأسئلة الوجودية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتلخص فى (أين عمرى).. «إحسان» أكثر من تفهم أشواق البنت المصرية، وليست صدفة أن (أين عمرى) كانت أول رواية تتلقفها السينما المصرية. فهى تطرح سؤالًا «ابن ساعته». وفى الفيلم نجد «ماجدة» التى كانت تقدم من قبل أدوار الفتاة المظلومة، المهضومة، التى تعيش على هامش الحياة، فى هذا الدور الذى يبدأ بها كما لو أنها من الحريم القديم، لا تعلم شيئًا عن الحياة، مجرد ألعوبة فى يد الآخرين، تتزوج رجلاً يمثل القيم الشرقية فى أعتى صورها قسوة، لكننا نجدها تدرك فى لحظة تنوير أنها لا تعيش حياتها، لكن يمارس عليها كل ألوان النواهى والممنوعات، وفى لحظة شجاعة تواجه نفسها ومجتمعها وتطرح هذا السؤال البصير وتخطو خطواتها الأولى نحو الحرية، ربما كان فى تمردها شىء من المغالاة كرد فعل للحياة الضنينة التى عاشتها، لكن سريعًا ما تقف على أرض صلبة وتبدأ مسيرتها فى الحياة نحو الحرية.. هنا نلمس تغيرًا جوهريًا فى صورة المرأة على الشاشة. النساء فى السينما المصرية كن ينقسمن إلى قسمين: قسم الملائكة ذوات البنيان النفسى الهش مثل (أمينة رزق وسلالة بناتها، فاتن حمامة ومريم فخر الدين وليلى مراد وماجدة).. وقسم النساء المتوحشات الغرائزيات مثل (تحية كاريوكا، برلنتى عبدالحميد، وقبلهما نجمة إبراهيم، وزوزو ماضى). لذا نعتبر أن بطلة (أين عمرى) كانت بمثابة الضربة الأولى فى صورة المرأة الشيطانة والمرأة الملائكية..«إحسان» صنع صورة متغيرة لنجمات السينما.. فامتدادًا ل«ماجدة» نجد «فاتن حمامة» فى (الطريق المسدود) والذى أعتبره ضربة أخرى فى طريقة التعامل مع المرأة والنظر إليها باعتبارها تمارس دورها فى صنع مصيرها، ثم «لبنى عبدالعزيز» فى (أنا حرة) التى تكتشف أن العلم هو إحدى وسائل التحرر من عبودية المجتمع، ثم تكتشف ما هو أهم وهو العمل فتنخرط فى العمل تلو العمل بلا تردد وبمنتهى الحماس، فتثبت لنا ولنفسها أن المرأة ليست مجرد أذرع وأفخاذ أو مجرد إرادة خائرة. إنها كائن فعال جسدته «لبنى» فى (أنا حرة) ببراعة خاصة أنها تكتشف أن الانخراط فى العمل الوطنى العام هو قمة التحرر من عبء الماضى وهو الطريق المفتوح للمستقبل.. نماذج نسائية رائعة تجعلنا ندرك أن «إحسان» من أهم الذين استجابوا لتغيرات الواقع وتنبأ لدور المرأة فى المجتمع، مستجيبًا فى هذا لطموح البنت المصرية، وفى رأيى أن هذا أهم ما قدمه «إحسان» للسينما وبعيدًا عن تقييم أفلامه فهو يستحق الإشادة بهذا التغيير الشجاع لصورة البنت المصرية، فقد فتح الباب لأداء وطريقة مختلفين للمرأة، وعلى عكس «نجيب محفوظ» مثلاً، الذى لم يكن مهمومًا بالمرأة بقدر ما كان مهموما بالمجتمع كله، بتأملاته وواقعه ومستقبله، لكن«إحسان» كان مهتمًا بالمرأة والبنات والمستقبل. هل ظلمت السينما أحيانا جودة الروايات والقصص التى كتبها؟ ممكن، ولكن هذا لا ينطبق على «إحسان» فقط، «نجيب محفوظ» كذلك تم تحويل أعماله لأشياء جميلة وأخرى مبتذلة، لكن قوة روح «إحسان» فى أفلامه ظاهرة بشكل كبير جدًا، بمعنى أننا الآن ربما لا نتذكر أسماء المخرجين أو كتاب السيناريو ولكن نتذكر أنها أفلام «إحسان». مواقفه السياسية كانت تظهر أحيانًا فى الأفلام، كيف وجدتها؟ لا يوجد فيلم لم يمتلك بصيرة نافذة فى مضمونه، حتى عناوين أفلامه، يعنى عندما يكتب (يا عزيزى كلنا لصوص) فى مرحلة تشهد على بداية سرقة مصر على نطاق واسع، وهى مرحلة الانفتاح والذى عبر عن رأيه فيها بوضوح فى (ولايزال التحقيق مستمرًا)، لذلك كل أفلامه تقريبًا يوجد بها موقف من الواقع كله، وإن كان أحيانًا فى بعض أفلامه يركز على أشياء ليست منصفة، مثلا فى (الرصاصة لاتزال فى جيبى) ظهر التباين بين أفكاره وأفكار «عبدالناصر»، مما أدى به إلى عمل نوع من تصفية الحساب فى هذا الفيلم، فهو روائى سياسى وهذه نقطة جديرة بالالتفات وهو مهموم بقضايا الوطن، يرى أن شخصًا مثل «عبدالناصر» له أخطاء جسيمة، وإن كنا نرفض ذلك، لكننا نتفهمه، وهذا لا يقلل ولا ينتقص من دور «إحسان» الكبير فى الواقع الأدبى والنتاج السينمائى، وخاصة ما فعله للفتاة المصرية التى أصبحت أكثر واقعية وبها قدر كبير من التبشير. منذ منتصف الستينيات أصبحت بطلات «إحسان» أضعف مما كن عليه من قبل، لماذا؟ «إحسان» كان يرصد الواقع، ودائما فى الثورات الاجتماعية تحدث (شطحات)، رغم الخطوات الراسخة الثابتة والحكيمة. إلا أن هناك انطلاقات خاطئة. «إحسان» يرصد الاثنين ليمتد ذلك حتى (دمى ودموعى وابتسامتى)، حيث نجد البنت الجميلة التى تجسد عناء الفتاة المصرية الناتج عن نظرة الرجل لها على أنها خادمة فراش، فنجدها تتنقل من فراش ناعم لآخر أكثر نعومة، فيظل حلم العلم والعمل ملاصقًا لكل بطلاته، حتى الخاطئة منهن يظل بها جزء ينبض بحلم الحياة السوية التى تشارك فيها الرجل وتعاونه لبناء حياة أكثر عدالة ويظهر ذلك بوضوح فى (الطريق المسدود).. وبعد ثورة يوليو 52 بفترة، ولأن كل ثورة تبدأ قوية ومن الممكن أن تخفت، جاءت مرحلة ظهرت فيها شخصيات البطلات الضعيفات، وهى المرحلة التى كان بها تقليل متعمد لدور البنت المصرية، وهى فترة «السادات» تحديدًا، عندما أطلقت جحافل الجماعات الرجعية فى مواجهة اليساريين، فأصبحت هناك ضغوط على المرأة وربما لو كان«إحسان» فى عنفوان أعماله الأولى كان سوف ينتقد ذلك بشكل أكبر.. فقد تمتع «إحسان» بجرأة استقاها من والدته «روزاليوسف» التى لا يمكن نسيان دورها معه ومع مصر. فى رأيك أى ممثلة أتقنت تجسيد شخصيات «إحسان» بشكل أفضل؟ مستوى الأداء التمثيلى يرتبط بمستوى المخرج، فمثلا نرى أن «فاتن حمامة» - فى الفيلم الذى كانت منزعجة جدًا من بطولته (لا أنام) – تقدم أداءً رائعًا وذلك لأن المخرج هو «صلاح أبو سيف» وهو مخرج قدير.. يقدمها مثلا فى إحدى لقطات الفيلم، واقفة على سجادة حمراء بلون الدم، تتلفت حولها بإحساس المرتكب جريمة، فيغمى عليها، هنا دور المخرج الذى يخلق مناخًا يتناسب مع الفكرة.. فى مرحلة لاحقة، نجد «نبيلة عبيد» والتى تعتبر وكأنها بطلات الخمسينيات عندما كبرن فى العمر.. فما قدمته كان بمثابة ما حدث لبطلات الخمسينيات عندما كبرن وأصبح هناك واقع جديد، الدرجة التى وصلت إليها من السطوة والسلطة فى (الراقصة والسياسى)، والحنو والتفهم فى (العذراء والشعر الأبيض). وأبطاله الرجال؟ كلهم أوغاد، وعنده حق ،فأى شخص لا يتحرج من الارتباط بفتاة أصغر منه، وغد.. ف«إحسان» كان يرتقى بالمرأة أكثر بكثير من الرجل، لذا سنج د «نجلاء فتحى» في(أختى) مثلا، مقارنة بشخصية البطل «محمود ياسين»، امرأة لديها استعداد لمواجهة المجتمع أكثر منه، وأيضًا فى (الطريق المسدود) سنجد البطلة تتمكن من مواجهة القرية والمدينة وكل ألوان القهر بإرادة من حديد، وأدته بشكل لا يستطيع أحد غيرها القيام به «فاتن حمامة»، (الخيط الرفيع) مثلا الفرق بين البطلة وبين انتهازية البطل.