كتب: صلاح بيصار كلما مررت من ميدان «طلعت حرب» الشهير.. الذى يمثل إحدى علامات وسط البلد أشعر بالاعتزاز الشديد.. فاسم أشهر ميدان بالقاهرة ارتبط برجل الاقتصاد الكبير، حيث يقف تمثاله فى جلال وجمال..بلمسة المثال «فتحى محمود» فى تفرُّد من الصرحية والشموخ بمثابة تخليد وشهادة على عظمة أبو الاقتصاد المصرى. كان طلعت حرب كما يقول د. جلال أمين: «رجلًا فذًا من نواحٍ عدة..ولد فى حى الجمالية بالقاهرة وشهد فى صباه ومطلع شبابه نمو حركة مصر للمصريين..وقيام الثورة العرابية فى 1881 وأتيح له أن يتشرب ويجمع بين ثقافة وطنه العربية والإسلامية والثقافة الفرنسية.. بدخوله مدرسة الحقوق الخديوية التى التحق بها فى 1886 وكان من زملائه فيها الزعيمان مصطفى كامل ومحمد فريد». رابع الأهرام وفى الحقيقة مثلما يعد سعد زغلول صاحب اللبنات الأولى فى بناء استقلال مصر السياسى.. يعد طلعت حرب «1867 - 1941» الرائد الأول فى بناء مستقبل استقلال مصر الاقتصادى.. من خلال مشاريعة الاقتصادية الوطنية الكبرى وكان أولها إنشاؤه بنك مصر وافتتاحه رسميًا فى العام التالى لقيام ثورة 1919، وتوالت مشاريعه التى تحمل اسم مصر متحررة من التبعية الأجنبية.. مع مشاريعه الأخرى فى عمق الفكر والفن والثقافة من إنشاء أول مطبعة مصرية.. وإقامة استديو مصر وإنشاء شركة مصر للتمثيل..وقد كان لهذه العقلية الضخمة بإسهاماته العديدة وريادته فى الاقتصاد الوطنى ما جعل الشاعر شوقى يقول شعرًا ببلاغة فى التعبير: الله سخر للكنانة خازنًا .. أخذ الأمان لها من الأعوام وكأن مال المودعين وزرعهم.. فى راحتيك ودائع الأيتام مازلت تبنى ركن كل عظيمة..حتى أتيت برابع الأهرام. التمثال وفتحى محمود وإذا كان طلعت حرب قد رحل عن عالمنا عام 1941 بعد أن حورب لوطنيته من قبل سلطات الاحتلال الإنجليزى.. إلا أن دوره الريادى وإنجازاته فى تمصير الاقتصاد الوطنى تمثل صفحات مضيئة فى تاريخ مصر فى النصف الأول من القرن العشرين..ومن هنا جاء رد اعتباره وتكريمه من الرئيس جمال عبد الناصر..بإطلاق اسمه على ميدان «سليمان باشا الفرنساوى» صاحب التمثال الذى كان يتوسط الميدان.. وإقامة تمثال يحمل شخصيته مكانه. وسليمان باشا الفرنساوى «1788 - 1860» كولونيل فرنسى انضم للجيش المصرى سنة 1819وأسس أول مدرسة حربية ونظام العسكرية النظامية فى مصر الحديثة.. وشارك فى معظم حملات محمد على باشا العسكرية.. وقد تم نقل تمثاله فى قرار موفق أمام المتحف الحربى بالقلعة. أما عن تمثال طلعت حرب فهو من إبداع المثّال فتحى محمود «1918 - 1982» الذين نسيناه.. رغم بصمته فى فن النحت وإضافاته إلى التمثال الميدانى بلمسته العميقة التى تميزت بالرصانة الكلاسيكية.. خاصة فى تماثيل الأشخاص من رموز المجتمع.. وقد جسَّد طلعت حرب بوقفة ثابتة ونظرة متطلعة بدرجة ميل قليلة فى الرأس ناحية اليمين.. وبين يديه أوراق وكأنها أوراق الاقتصاد المصرى المتحرر من التبعية. وهو بلمسته يؤكد على قوة تمثال الميدان كعلامة تشكيلية ومعنوية يعتمد عليها البشر فى توجهاتهم فى المدينة....خاصة ومع «طلعت حرب» تقف مجموعة من التماثيل لرموز من مصر تشدو بروح الوطنية وقوة التشكيل والتعبير.. من بينها «إبراهيم باشا» بالعتبة من تصميم المثال الفرنسى «كودييه» بتكليف من الخديوى إسماعيل..وتمثال الزعيم الوطنى «مصطفى كامل» للمثال الفرنسى أيضًا «ليوبولد سافان» إلى سعد زغلول أمام النيل بجزيرة الزمالك بلمسة مثال مصر «مختار» والذى جسد فيه تضاريس أمة وملامح شعب وإرادة من الصخر وهو صاحب «نهضة مصر» أمام جامعة القاهرة والذى يعد شاهدًا وأبلغ تعبير عن عودة الروح مع ثورة 1919. وتكمن قيمة «طلعت حرب.. التمثال» ليس فى قوة التعبير فقط وبلاغة اللمسة والوقفة المعبرة والموحية برجل الاقتصاد.. ولكن أيضًا فى الفراغ المحسوب والمدروس وعلاقة التمثال بالميدان وما حوله من مبانٍ وتقاطعات شوارع وخط أفقى فى الفراغ العمرانى.. بما يؤكد الارتباط العضوى بينهما وفى الوقت نفسه هذا التفرد من الصرحية والشموخ. وإذا كان النحات هو المالك الشرعى للفراغ العمرانى بتعبير المثال عبد الهادى الوشاحى يستوعبه بسطوته التعبيرية مما يحرض على التأمل بطريق غير مباشر وإعمال العقل والحوار من أجل الارتقاء بالذوق والتذوق. فنطالع هنا تمثال طلعت حرب يقف فى ميدانه الشهير على قاعدة بهيئة مكعب يسمو فى ارتفاعه. .تمثل نسبته مرة ونصف من ارتفاع التمثال وهى تجمع فى تدرج بين السطوح البارزة عليها فى حليات أشبه بالدرج. على أحد الوجوه الأربعة نقرأ «محمد طلعات حرب «1293 - 1360ه – 1876 – 1941م» وعلى الوجه الثانى: «أقامت محافظة القاهرة ومؤسسة بنك مصر والغرفة التجارية بالقاهرة هذا التمثال عام 1964 تمجيدًا للذكرى» مع كلمات على الوجهين الآخرين يبدو أنها من أقوال محرر الاقتصاد الوطنى فى الأولى: «أن الاستقلال السياسى والاستقلال الاقتصادى توأمان عزيزان خليق بنا أن نوفر لهما القوة والمنعة والسلطان» وفى الثانية تأكيد على وحدة الزراعة مع الصناعة والتجارة: «أن نهضتنا الصناعية أوجدت بجانب الفلاح المصرى عاملا وصانعا وتاجرا يشدون بعضهم بعضا ويقوون جميعا بناء مصر الاقتصادى». وميدان طلعت حرب يقع فى وسط القاهرة على بعد 400 متر من ميدان التحرير.. وهو نقطة تلاقى وتقاطع شوارع عديدة مع شارعه: شارع قصر النيل وشارع محمد صبرى أبو علم وشارع محمد بسيونى.ومن أشهر معالمه عمارات: جروبى ويعقوبيان وعمر أفندى وصيدناوى..وعماراته تنتمى إلى قاهرة العشرينيات ذات الطابع الأوروبى تنتمى إلى طراز الركوكو والذى يجمع بين عدة طرز وأنماط مختلفة مع احتفاظه بكرانيشه وأعمدته بنسب غير ثابتة وفق المعمارالكلاسيكى التقليدى فهى مأخوذة منه وخارجة عليه فى الوقت نفسه. فتحى محمود..المثال ويعد المثال فتحى محمود مصمم تمثال طلعت حرب أحد مثالينا الكبار.. تخرج في الفنون التطبيقية قسم النحت عام 1938 وتتلمذ على يد أستاذه «بورديل» ودرس النحت والخزف فى فرنسا عام 1951.. وله العديد من التماثيل الميدانية مثل طلعت حرب أيضا بميدانه بالزقازيق وتمثال «عروس البحر والأشرعة البيضاء» بالإسكندرية والذى تمتزج فيه الأسطورة الإغريقية بثقافة أوروبا والإسكندرية.. وله أيضًا أعمال من النحت البارزبالتعاون مع المهندس سيد كريم على المبانى العامة مثل: الغرفة التجارية ونادى الضباط وعمارة برج الزمالك.•