لم تكن مصادفة.. ولم يكن برينتون تارانت «مختلا» عندما أطلق النار على مسجدين فى نيوزيلندا وأردى 50 قتيلاَ.. فالمجرم كان يعلم ماذا يفعل وأين وكيف؟.. لكن لم يفكر أحد فى أن الحادث ليس سوى «فتيل» معركة «الإرهاب الأبيض».. عندما هاجم تنظيم القاعدة الولاياتالمتحدة عام 2001 لم تكن ضربة مصادفة، وكذلك عندما فعل الإرهابى الأسترالى جريمته كان جزءًا من حركة كبيرة، من حركة أخطر بكثير على مستقبل الديمقراطيات الغربية من الإرهاب المنسوب للإسلام، وهى «الإرهاب القومى الأبيض». ظهر تأثر الإرهابى الأبيض بأفكار ووسائل أندريس بريفيك، الإرهابى اليمينى المتطرف النرويجى الذى قتل 77 شخصًا عام 2011، والذى مثَّل بيانه الخاص غير المترابط، الذى جاء فى 1518 صفحة، مصدر إلهامٍ لكثير من المتطرفين الذين قلَّدوه، وضمن ذلك كريستوفر هاسون، وهو ملازم فى خفر السواحل الأمريكى يواجه اتهاماتٍ فيدرالية بالتخطيط لهجومٍ إرهابى محلى، على غرار هجوم بريفيك. وكان بيان القاتل عبارة عن «قائمة تعريفية بالقَتَلة المؤمنين بتفوق البِيض»، وكانت مصادر إلهام الكاتب هى ديلان روف، المؤمن بتفوق البِيض الذى قتل 9 أمريكيين من أصلٍ إفريقى داخل كنيسة بولاية ساوث كارولينا عام 2015، بالإضافة إلى لوكا تراينى، وأنتون لوندين بيترسون، ودارين أوزبورن، وجميعهم نفَّذوا هجمات عنصرية بأوروبا فى السنوات الأخيرة. أما ملابسه فوضع عليها رُقعة عليها شعار تستخدمه بعض مجموعات النازيين الجدد فى أنحاء العالم، وضمن ذلك أستراليا، وكان مكتوبًا على بندقيته مجموعة من معتقدات القوميين البِيض التى روَّج لها ديفيد لين، الإرهابى الأمريكى المحلى وأحد المنتمين إلى النازيين الجدد، وكان يوجد على سترته الواقية من الرصاص شعار شائع تستخدمه «كتيبة آزوف»، وهى منظمة أوكرانية شبه عسكرية تنتمى إلى تيار النازيين الجدد. وبينما كان يبث مقطع فيديو مباشرةً من سيارته، كان يستمع إلى أغنية أُعِدَّت تكريمًا لرادوفان كاراديتش، وهو أحد قادة صرب البوسنة والمسئول عن موت الآلاف من مسلمى وكروات البوسنة خلال حربٍ عِرقية نشبت بمنطقة البلقان فى التسعينيات. وبلغة الأرقام كشف موقع The Daily Beast الأمريكى أن أقل من حالة واحدة من بين كل 5 حالات فى المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI تستهدف المتعصبين للعرق البيض، وسط تأييد غير مسبوق من «شبكة المدافعين عن إرهابهم». وشبكة المدافعين عن الإرهاب الأبيض، هى الشريان الذى يغذى مخططاته الإرهابية، فهم فعليًا «أعداء الداخل» وليس سرًا أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أبرز الداعمين لهذا التيار، لأنه أحد المدافعين عنهم. إذ أنه «رمز لتجديد الهوية البيضاء والهدف المشترك»، مثلما كتب تارانت فى بيانه، فتدابير مثل هاجس الجدار الحدودى، ومحاولات حظر دخول جميع المسلمين- تسير فى ركب «تارانت» لأن قاعدة «ترامب» تؤمن بها. ويرى مراقبون أنه حينما يتعلق الأمر بتغذية الغرائز الأساسية للقاعدة لإحكام القبضة على السلطة، فليس من الواضح على الإطلاق إلى أى حد قد يذهب ترامب فى أفعاله، ويذهبون إلى إمكانية تنظيم «انقلاب» إذا خسر الانتخابات، وهو ما كشفته شهادة مستشار ترامب، مايكل كوهين «سيئ السمعة»، أمام الكونجرس الشهر الماضى كانت عندما قال: «أخشى أنه إذا خسر الانتخابات عام 2020، فلن يكون هناك انتقال سلمى للسلطة أبدًا». والحقيقة أن «ترامب» نفسه لم يخف ذلك كما كشف فى مقابلته مع موقع Breitbart منذ أسبوعين قائلًا: «أحظى بدعم الشرطة، ودعم الجيش، ودعم حركة Bikers for Trump- أحظى بدعم الأشخاص الأقوياء، لكنهم لا يظهرون هذه القوة - إلى أن تصل بهم الأمور إلى درجة معينة، وحينها سيكون الأمر بالغ السوء». وفسر العديدون هذا التصريح بأنه تهديد مستتر باللجوء للعنف. وبكلمة أخرى إذا منى ترامب بالهزيمة فى 2020 فعلى الإدارة الأمريكية أن تتخلص من رجاله فى الجيش والشرطة، وربما يحتاج الأمر ل«حملة تطهير»، وهو ما حدث فى سابقتين تاريخيتين كانت الأولى عندما أُزيح الضباط العسكريون والدبلوماسيون وغيرهم من المسئولين الذين يحملون تعاطفًا حقيقيًا أو مشكوكًا فيه مع الكونفدرالية أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (وقد غادر الكثير منهم من تلقاء أنفسهم). وجاءت الثانية فى عهد جوزيف ريموند مكارثى عندما شنت حملة بشعة ضد الشيوعيين المزعومين فى أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، ولكن الأمر لن يكون سهلًا. وبالعودة لحادث نيوزيلندا نكتشف «خطة إشعال المواجهة» ويقول لنا بيان تارانت: «يجب أن تكون الحرب الأهلية فى ما يسمى ببوتقة الانصهار، وهى الولاياتالمتحدة، هدفًا رئيسيًا فى الإطاحة بهيكل القوة العالمية وثقافة الدول الغربية العالمية المهيمنة التى تدعم حقوق الفرد والمساواة» أى أنه يأمل أن يؤدى «النزاع حول التعديل الثاني» (الذى يعطى المواطنين حق حمل السلاح) إلى هذا الاقتتال الأهلى و«تقسيم الولاياتالمتحدة فى النهاية على أسس سياسية وثقافية، والأهم من ذلك، عنصرية»، والحقيقة أن تلك المبادئ هى ما يؤمن بها «القوميون البيض»، وتلك الكلمات التى نشرها العنصريون الأمريكيون من قبلُ لسنوات، وتطورت إلى أيديولوجية فى أوروبا كصدى للإرهاب اليوم مثلما كان كتاب كفاحى لهتلر فى العشرينيات. وتدعم رسل القومية الإثنية واللغوية أفكار القوميين البيض ويروجون لها سرًا وعلنًا فى بلدان أوروبا الغربية لتعطيل وتقسيم ديمقراطياتها. وأصبحت الأحزاب التى تروج لبرامج معادية للمهاجرين من ذوى البشرة السمراء أو السوداء مشاركين فاعلين فى سياسات بريطانيا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وقد سافر «تارانت» مؤخرًا إلى إسبانيا وبلغاريا ودول أخرى توجد بها حركات يمينية مغرقة فى التطرف كما حضر القاتل إلى فرنسا عام 2017 لمراقبة الانتخابات الرئاسية بين إيمانويل ماكرون، الذى يمثل كل شيء، من العولمة إلى التعليم العالى، ويكرهه تارانت وأمثاله، واليمينية المتطرفة مارين لوبان، ويكمن مفتاح طريقة تفكير تارانت وأمثاله فى عنوان بيانه، «الاستبدال العظيم»، المستمد مباشرة من عمل المؤلف الفرنسى اليمينى المتطرف رينو كامو، الذى كتب أن الشعوب التى تتمتع بالخصوبة فى إفريقيا والعالم الإسلامى سوف يُغرقون أوروبا ويحلون محل سكانها. •