العراق تعصف به صراعات المصالح.. الغزو الأمريكى 2003، وتجاوزات قوات الاحتلال، ولّدا حالة من الكُره الشديد لواشنطن، التى أهملت فى نفس الوقت بناء قواعد شعبية أو مرتكزات قيادية تضمن نفوذها السياسى.. إيران على العكس، قامت ببناء مرتكزاتها، وعززتها بتشكيل ميليشيات الحشد الشعبى، التى أصبحت جزءًا من قوات الجيش الوطنى، بعد سيطرة قياداتها على وزارة الداخلية.. أمريكا حاولت تدارك الموقف 2017، مستعينة بالسعودية، بحكم قبولها الحسن لدى الطوائف العراقية، لكن غياب الأخيرة ل14 عامًا عن الساحة العراقية، وانشغالها بسوريا، شتت رؤيتها.. دخلت اللعبة السياسية على استحياء، دونما استعداد، تعاملت مع قوى دينية وحزبية، وأهملت الطائفة السنية، التى تلقفتها المخابرات القطرية والإيرانية والتركية.. تحرك المملكة بدأ بزيارة رئيس الأركان بصحبة قائد القيادة المركزية الأمريكية الوسطى لبغداد يوليو 2017، أعقبتها زيارة وزير الداخلية العراقى للمملكة.. نقولها ونكررها، عودة المملكة للمشرق العربى «مطلوبة ولازمة» ولكن لن تتم دون مشاركة فعالة فى عمليات الإعمار.. لأن البديل أن تضيع وسط لعبة طائفية، لاتتحكم فى خيوطها، ولا مآلاتها. المواجهة الأمريكية -الإيرانية تجسدت بوضوح إبان الانتخابات النيابية مايو الماضى، واشنطن سعت لتشكيل حكومة تلتزم بالعقوبات الأمريكية على إيران، وتتمسك ببقاء قواتها لمواجهة الإجراءات المعادية من جانب حلفاء طهران، خاصة ميليشيات الحشد الشعبى، التى تطالب بمغادرتها، وتهدد باستهدافها.. إيران حرصت على وصول حكومة عراقية منسجمة مع سياساتها، على النحو الذى يمكنها من تحويل العراق الى ممر لتسويق منتجاتها الصناعية والنفطية، للتخفيف من وطأة العقوبات الأمريكية.. عندما احتدمت المواجهة، هدد قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى نوفمبر الماضى بأن قواته قد تهاجم القوات الأمريكية، بومبيو إبان رئاسته للمخابرات الأمريكية أوفد مبعوثًا لمدينة البوكمال، ليحذره من التعرض للمصالح الأمريكية، سليمانى استقبله مؤكدًا «لن أتسلم الرسالة، ولن أقرأها، ولا أريد التعامل معكم»!!. رهانات العبادى إيران كانت تنوى الموافقة على التجديد للعبادى كرئيس للحكومة، نظرًا لنجاحه فى حفظ التوازن الحرج بينها وبين أمريكا، خلال فترة حكمه الأولى، غير أنها تراجعت وقررت استبعاده، بعد إعلانه الالتزام بالعقوبات الأمريكية، واتجاهه نحو تصفية نفوذ أبومهدى المهندس نائب رئيس ميليشيات الحشد الشعبى الموالى لها.. ووصل العناد الى حد رفض العبادى إعطاء تصريح لهبوط طائرة سليمانى ببغداد، ما اضطره للهبوط فى أربيل، بتصريح من البرزانى، والتوجه برًا للعاصمة.. أى دولة هذه؟!. أمريكا راهنت على العبادى بعد مصادرته للفدية القطرية «500 مليون يورو» إبريل 2017، التى كان مقررًا تسليمها لميليشيات «حزب الله العراقى» مقابل الإفراج عن الرهائن القطريين فى رحلة الصيد!!.. بعدها اتفق العبادى مع شركة أمن أمريكية لحراسة طريق بغداد/عمان، ضد رغبة طهران، وطلب عدم مغادرة القوات الأمريكية بعد استكمال تحرير الموصل، تجنبًا لترك فراغ تنتظره إيران. باستبعاد العبادى كمرشح لرئاسة الحكومة، حاول بريت ماكغورك مبعوث ترامب المستقيل اختيار شخصية غير موالية لطهران، لكنه فشل.. فهدَّد بفرض عقوبات اقتصادية على العراق، على نحو ما تم فى التسعينيات، إذا ما نجحت طهران فى تنصيب شخصية سياسية موالية لها لرئاسة الحكومة العراقية.. سليمانى طلب من القيادات الشيعية ترشيح وجه جديد، استجابة لرغبة المرجعية الدينية فى النجف «على السيستانى»، وأملا فى امتصاص نقمة الشارع السياسى، الذى تظاهر ضد فساد الطبقة الحاكمة وسوء إدارتها، وانعكس غضبه على إيران، فأحرق قنصليتها فى البصرة، ومقرات الأحزاب العراقية الموالية لها.. الغضب الذى انطلق من مركز الشيعة فى الجنوب، يعكس مؤشرًا بالغ الخطورة لتدنى شعبية إيران بالمناطق التى اعتادت ولاءها. رئيس الحكومة الجديد اختيار عادل عبدالمهدى رئيسًا للحكومة يرجع لكونه ليس من القيادات المحسوبة على إيران، رغم عضويته السابقة فى «حزب الدعوة» إبان لجوئه لإيران فترة حكم صدام، لكنه يخشى من المضى بعيدًا عن الضوابط الإيرانية، ما يهدم المعبد على رءوس الجميع.. أمريكا حاولت المساعدة بإعفائه من تبعات عدم تطبيق العقوبات التى فرضتها على إيران لمدة 45 يومًا، اعتبارًا من 5 نوفمبر الماضى، حتى يتمكن من تدبير بدائل للكهرباء والغاز الإيرانيين، ثم تم تمديدها.. وخلال زيارة بومبيو الأخيرة لبغداد شدد على ضرورة الالتزام بالعقوبات، وسرعة تقويض عمل الشركات الإيرانية، للحد من نفوذ طهران، مما يفسر مسارعة وزير الخارجية الإيرانى جواد ظريف بالتوجه لبغداد، بوفد سياسى واقتصادى رفيع المستوى، لمعادلة الضغوط الأمريكية. اللعبة الإيرانية إيران تواجه إشكالية كبرى تهدد مستقبل نفوذها بالعراق؛ حزب الدعوة الموالى لها احتكر السلطة منذ 2005، من خلال نورى المالكى ثم حيدر العبادى.. لكنهما خاضا الانتخابات الأخيرة وكل منهما على رأس قائمة منافسة، ففشلا، وتشتت الأصوات انعكاسًا لحالة السخط السياسى لدى المواطنين.. مما يفسر مسارعة طهران بدفع سليمانى لإدارة الأزمة.. سليمانى حاول فى البداية جمع القوائم الشيعية الرئيسية الخمس فى تحالف واحد «سائرون» مقتدى الصدر، «ائتلاف دولة القانون» نورى المالكى، «النصر والإصلاح» حيدر العبادى، «الائتلاف الوطنى» إبراهيم الجعفرى، و«الحكمة» عمار الحكيم، على أن يضم له «كتلة المحور الوطنى» السُنيّة، و«ممثلو الحزبين الكرديين»، لإبعاد الصبغة الطائفية عنه.. لكنه فشل أيضًا. «ديلى تلجراف» أكدت «29 نوفمبر» أن إيران واجهت فشل قوائمها فى الحصول على الأغلبية الكافية للسيطرة على الحكومة خلال الانتخابات، بنشر فرق اغتيالات لتصفية خصومها، وكانت أولى ضحاياها شوقى الحداد المقرب من مقتدى الصدر فى يوليو الماضى، وعادل شاكر التميمى حليف العبادى فى سبتمبر، ومحاولة فاشلة لاغتيال راضى الطائى السيستانى فى أغسطس. سليمانى كرر محاولته لتجاوز الأزمة بدعوة القطبين الشيعيين «العبادى والمالكى» لاجتماع ببغداد 14 يناير الجارى لرأب الصدع داخل الكتلة الشيعية الموالية لإيران، وقطع الطريق على سعى الصدر لتشكيل حكومة ائتلافية تهمش كتلتى المالكى والعامرى، لكن العبادى لم يحضر. مقتدى الصدر يعتبر أكثر السياسيين المطروحين على الساحة وطنية، وأنشطهم سعيًا لمصلحة العراق، حاول التخلص من المحاصصة الطائفية والقضاء على الفساد، لخشيته من تداعيات الغضب الجماهيرى الذى عبر عن نفسه بالمظاهرات الحاشدة لشهور متواصلة، مما قد ينعكس بالسلب على أمن العراق ووحدته، وتماسك نظامه السياسى.. قبل التحالف مع كتلة العامرى قائد الحشد الشعبى كبديل ل«صدامات السلاح»، لكنه تنصل منه بسبب تمسك شريكه بتشكيل ائتلاف شيعى حليف لإيران، أوشك مع العبادى والحكيم وعلاوى وبعض النواب السنة على تشكيل الكتلة الأكبر، لكن سليمانى مدعومًا بتدخلات قطرية تمكن من الحيلولة دون انضمام الأكراد وبعض الكتل السنية له، ما حال دون استكماله للنصاب، وتكشفت أبعاد الصفقة عندما أصدر نائب رئيس هيئة الحشد الشعبى أبو مهدى المهندس قرارًا مفاجئًا بسحب جميع الفصائل من المدن والبلدات التى يقطنها السنة والأكراد والتركمان!!، وفى الوقت الذى هللت فيه تلك الأقليات للقرار، سارع العبادى بإلغائه، لأن غرضه سياسى، ولا يدخل ضمن خطة إعادة انتشار قوات الأمن، لكن ذلك أفقده تعاطف القوى السنية. الأزمة الراهنة أبرز أبعادها الصراع بين الكتلتين الشيعيتين، الأولى «كتلة البناء»، التى تتألف من تحالف ميليشيات الحشد الشعبى وحزب الدعوة والأطراف السياسية المقربة من إيران وقطر، ويمثلهم «دولة القانون» و«الفتح».. والثانية «كتلة الإصلاح» التى تتشكل من «سائرون» و«النصر» و«الحكمة» و«الوطنية».. المناورات السياسية تجاوزت الحدود وخلطت الأوراق، البرلمان الجديد ظل قرابة أسبوعين فى صراعات ماراثونية حتى حصل محمد الحلبوسي، محافظ الأنبار السابق على النصاب القانونى كأصغر رئيس فى تاريخ البرلمان العراقى.. ورغم انتمائه السنى، فإنه فاز بدعم صريح من «البناء»، وصفه خالد العبيدى وزير الدفاع السابق بالصفقة الفاسدة التى قوامها 30 مليون دولار!!. رئيس الوزراء الجديد عجز عن تمرير الموافقة على 8 مرشحين للحكومة منذ 4 ديسمبر، بسبب تمسكه بترشيح شخصيتين سياسيتين لوزارتى الداخلية والدفاع، وهما فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبى المقرب من سليمانى للداخلية، وفيصل الجربا للدفاع، وخلافات حول مرشح العدل.. والمؤسف أن الفياض كان يقود أحد تكتلات «ائتلاف النصر» الرئيسية، لكنه طعن العبادى وانشق بالتنسيق مع المالكى والعامرى، على وعد بترشيحه لمنصب وزارى!!.. سليمانى يمارس ضغوطه لتعيينهم، إلى حد مقابلته للصميدعى مفتى العراق ومطالبته بالتدخل، وإقناع الصدر والعبادى. ••• الصدر يتمسك برفض الموافقة على تعيين أى سياسى يرتبط بقوى خارجية، ويهدد بالانضمام للشارع السياسى إذا ما استحكمت الأزمة.. العبادى يقف مترقبًا، فقد تدفع به التوازنات السياسية من جديد للصدارة.. ورجال طهران يتصورون أن الفرصة سانحة لانقضاضة أخيرة لإحكام سيطرتهم على مقاليد السلطة والنفوذ فى البلاد.. الشارع يغلى جراء معاناة طويلة، تفاقمت بفعل فساد وجوه كريهة تتمدد على الساحة منذ عقود.. والنيران صارت أقرب ما تكون لإحراق الجميع.. قلوبنا أوجعها القلق على بلاد العرب، فمتى تنزاح تلك الغُمة؟!.•