تتجلى عبقرية نجيب محفوظ المدهشة فى قدرته على تصوير ونحت الشخصيات فى أعماله، يحس القارئ أحيانا أن هذه الشخصيات من لحم ودم وتتنفس فوق الورق، وهو بارع أيضا فى خلق الجو الذى تحيا فيه شخوصه من حيث الزمان والمكان. إنه رسام بورتريه من الطراز الأول، شخصياته تظهر بسماتها النفسية وصراعاتها الداخلية، يصورها فى ضعفها وقوتها ومأساتها. كل رسام يقرأ روايات نجيب محفوظ لابد أن يتوقف عند هذه القدرة الهائلة فى رسم الصورة البصرية لشخصياته، ولذلك فهى محرضة لكل رسام على الإبداع. كرسام قرأت نجيب محفوظ منذ سنوات بعيدة، وقد فتنت بروائعه المرايا وميرامار والشحاذ والطريق. لا أستطيع أن أنسى تحفته «المرايا» التى هى معرض بورتريهات لشخصيات كثيرة متداخلة تصور للقارئ دراما الحياة، وأيضا فى رائعته «الشحاذ» توقفت كثيرا عند شخصية عمر الحمزاوى بطل الرواية والباحث عن سر الوجود، وكيف صور نجيب محفوظ صراعه الداخلي. أما روايته البديعة «ميرامار» التى صور فيها كل شخصية على حدة وكيف تنظر للآخرين من أشخاص الرواية ومن قراءة هذه الشخصيات تكتمل الرواية، وكل شخصية هى بورتريه أبدع نجيب محفوظ فى تصويره على الورق. ولذلك كانت أعمال نجيب محفوظ ومازالت ملهمة للرسامين، رسم رواياته وقصصه الفنانون الحسين فوزى وجمال قطب وسيف وانلى وحلمى التونى ومحمد حجى وغيرهم. وأكثر الرسامين ارتباطًا بأعمال محفوظ كان الفنان جمال قطب الذى رسم كل أعماله الصادرة عن مكتبة مصر منذ منتصف الستينيات، وفى حواره معى على صفحات صباح الخير عام 2010 تحدث الفنان جمال قطب عن تجربته مع محفوظ قائلا «فى لقائى الأول بنجيب محفوظ قال لى: كتبى أمانة لديك، ووجدته شخصية ثرية، متواضعًا يحسن السمع جدا ولم يتدخل يوما فى شغلي، وعندما كنت أسأله رأيك يا أستاذ نجيب؟ يقول هذه رؤيتك، كنت ألتقى به فى مكتب سعيد السحار كثيراً، كل أعماله تعجبنى جدا». كان جمال قطب هو القارئ الأول لأعمال نجيب محفوظ كانت تأتيه بخط يده، وكان ينزل للجمالية لرسم اسكتشات للأماكن التى عاش وكتب عنها نجيب محفوظ، كان أسلوبه واقعيًا فى رسم شخصيات محفوظ، واختار نماذجه محملة بحركات، وكان يرسم فى التكوين على الغلاف شخصية رئيسية، ثم يرسم باقى الشخصيات بطريقة الاسكتش حولها، كان ينوع فى ملامس الشخصيات، ودائما أغلفته فيها جو الرواية ولذلك كان أسلوبه محببًا للناس وقريبًا منهم، وهو يقول عن أسلوبه «أسلوبى يجب أن يكون موازيًا وموضحًا للدراما ويحولها إلى صور بصرية.. الناس تقرأ وتنظر للغلاف والرسوم الداخلية». فى عام 1959 نشرت الأهرام رواية «أولاد حارتنا» وكلف الأستاذ هيكل الفنان الحسين فوزى برسم الرواية، وكان معروفا برسومه فى الصحافة وكان أستاذا بكلية الفنون الجميلة، رسم الحسين فوزى فصول الرواية بالأبيض والأسود فى 155، وتميزت رسومه بالحركة واستطاع تحويل دراما الرواية إلى لوحات بصرية واقعية. فى عام 1971 نشرت مجلة الإذاعة والتليفزيون رواية «المرايا» وكلف الناقد رجاء النقاش رئيس التحرير وقتها الفنان المعروف سيف وانلى برسم شخصيات الرواية واستطاع سيف تقديم الشخصيات بأسلوبه الخاص الذى يعتمد على التلخيص والتحوير، وكان يضيف بعض اللمحات خلف الشخصية من المكان، وكشف عن السمات الخاصة لكل شخصية، وذلك من خلال المبالغة فى نسب الجسم لتكثيف معنى الشخصية وقال نجيب محفوظ وقتها عن رسومه «أحسست أن سيف يكتب الرواية معي!» عندما أصدرت دار الشروق أعمال نجيب محفوظ كلفت الفنان حلمى التونى برسم الأغلفة، حيث قدم رؤية مختلفة وجديدة، نحن فيها إلى البساطة، ورسم بأسلوبه المحمل بالرموز الشعبية رسمًا صغيرًا فى ركن من الغلاف أقرب إلى الموتيفة، ولكنه معبر عن الرواية، واختار لكل غلاف لونا مختلفا عن الآخر ومعبرا عن الجو العام.. أما الفنان محمد حجى والذى رسم «أحلام فترة النقاهة» والتى نشرت فى مجلة نصف الدنيا، رسمها حجى بأسلوب سريالى أو بأحلام مرادفة لما أوحى له النص المكتوب، كانت رسومه مميزة وموحية، فقد كانت أحلام نجيب محفوظ ساحة كبيرة مارس فيها حجى إبداعه الفني. ستظل أعمال نجيب محفوظ ينبوع إلهام لا ينضب لريشات الرسامين.•