هناك مطبخ مصرى، طبعا، له سماته وأطباقه وتاريخه، وإن لم يكن له شهرة مطابخ أخرى، حتى فى حدود منطقتنا، فالمطبخ الشامى والتركى والمغربى، أكبر شهرة وأعرق ويدخل حلبة المنافسة، فى عالم الطبخ. ولكن هل يمكن أن يكون هناك رافد داخل المطبخ المصرى، باسم المطبخ القبطي؟ ستجيب بنعم، إذا عرفت أن كتابا صدر منذ أسابيع قليلة، بعنوان «غذاء للقبطي» كتبه شارل عقل، وأصدرته «كتب خان». ولن تجيب بنعم إلا بعد أن تقرأ الكتاب. وبالنسبة لى، يجىء صدور هذا الكتاب، مفاجأة سارة. فسؤال، ماذا يأكل إخواننا الأقباط، وبالذات فى أيام الصيام، كان يشغلنى، وبالذات بعد أن كبرت، وأحسست أننا لا نعرف الكثير عن شركائنا فى الوطن. وعندما كنت أسأل أصدقائى الأقباط، عن الصيام ومائدة الإفطار، فإن إجاباتهم لم تكن تشفى الغليل. وفهمت أن هذا، لأن عليهم أن يشرحوا لى منظومة معقدة، يرتبط فيها الجانب الدينى بالتاريخ الاجتماعى بالاجتهادات الشخصية بالظروف البيئية، بحيث تبدو القداسة التى يضيفها الناس، غير مفهومة لهم أنفسهم بالقدر الكافى. حتى وقع هذا الكتاب بين يدى. فتلقفته بفرح ولهفة. ولم يخيب أملى. فقد أجاب على السؤال الذى كان يشغلنى، إجابة أفصح ما تكون الإجابة وأدق وأشمل. ومما يجعله فريدا فى بابه، أنه ليس تقليدا لكتاب أبلة نظيرة الشهير والمهم، أو كتب الطبخ الأخرى الكثيرة والمتنوعة. فهو رغم أنه يكشف بالتفصيل عن أسرار هذا المطبخ، والأصناف التى تخرج منه، إلا أنه - وهذا هو الأهم - ينغمس فى الفلسفة والدين واللاهوت والتاريخ الذى يصنع قاموس هذا المطبخ.. والمؤلف يمتلك كل المؤهلات المطلوبة، لكتابة كتاب على هذا المستوى. صيامى وفطارى فهو ابن الطائفة المسيحية، الذى يعرف ويلم بكل خواطرها وهمساتها. وفى نفس الوقت، يتأمل فى الطقوس، يتفهم جوهرها، مما يمنحه حرية أكبر ومسافة تقربه من نظرة موضوعية. وهو بعد هذا، طاه خبير، يمكن أن تضعه فى مرتبة الخبراء والذواقة. باختصار هو درس موضوعه، من كل جوانبه، وتبحر فى تفاصيله، فجاء كتابه فى المطبخ القبطى وتطوره، وتأثير العلاقات بين الشريكين فى الوطن، على هذا المطبخ لا توقف أمام سمات الشخصية القبطية، وكيف تواجه التحديات. ونحن نفهم منه، أن العامل الأهم الذى يهيمن على ذلك المطبخ، هو فريضة الصيام التى يلتزم بها المتدينون، ومعظم المواطنين العاديين، حتى من غير المتدينين. وإذا كان المسلمون يصومون شهرا واحدا، فإن أيام الصيام فى المسيحية، تصل إلى ما يقرب من 200 يوم - ليست متواصلة - أهمها الصيام الكبير الذى يمتد 55 يوما. وهم لايصونمون عن الطعام والشراب، لكن يصومون عن المنتجات الحيوانية، أى اللحوم ومنتجات الألبان. وبهذا أمامهم بدائل قليلة يختارون من بينها. ومن هنا أصبح فى حياتهم نوعان من الطعام، صيامى وفطارى. وفى أيام الصيام؛ يتغير نظام المطبخ تماما، بل يتغير السوق كله من حوله، ليتلاءم مع كتلة شعبية كبيرة، يصل تعدادها إلى خمسة ملايين، أو أكثر تمتنع مرة واحدة، عن أطعمة، وتقتصر على أخرى. وتفهم منه أن السوق هنا، تتمثل فى المنتجات التى تخرج من الأديرة، ونوردها للكنائس المجاورة، وهو اقتصاد ليس هينا. تعرض له الكتاب بالتفصيل. وأيضا فى الصناعات الغذائية، التى تسارع إلى تحويل نشاطها، وتعلن أن لديها، طعامًا صياميا. وقد فرض التطور، بدائل صيامية لكثير من الأطعمة. وربما الذى نبههم إليها اختراع «بيض القهوة» الذى حل محل اللبن، وما هو بلبن، وتوالت الجبنة الصيامى والمايونيز الصيامى، والبيتزا الصيامى. ولكنه لايرى فى كل هذه البدائل، غير نسخ باهتة، لاتغنى عن الأصل. تقشف وترف وأهم سمة يمكن ملاحظتها على المطبخ القبطى، هى المبالغة فى الحالين، تقشف وزهد وتقبل للشظف أيام الصيام، يقابله إسراف وبذخ وترف، فى الإفطار، وبالذات فى أيام العيد. ويرصد تأثير شهر رمضان على المطبخ القبطى، حيث تمتلئ السوق، بمنتجات مرتبطة بالشهر الكريم، وأحيانا بتخفيضات مغرية، حيث لايستطيعون مقاومة إغرائها، لكنه يضع يده على نقطة تتسم بالحساسية، يصوغها بقوله؛ إن العائلات المسلمة لا تكترث بالصيام القبطى، ويدلل على هذا تفصيلا من خبراته الشخصية، وهو طفل فى المدرسة ثم وهو صبى. ومن خلال ردود الفعل التى تصله بعفوية من زملائه فى العمل. وإذا كان المسيحيون يحرصون على عدم المجاهرة أمام الصائمين فى رمضان، مراعاة واحتراما. فإن فرض هذا الموقف يصور عدة، يترك أثرا طيبا.. والفصل الذى عقده لتناول لحم الخنزير وشرب الخمر، ربما أهم فصول الكتاب وأيضا أطولها (70 صفحة). وإذا كانت الديانتان اليهودية والإسلام، تحرمان لحم الخنزير وشرب الخمر، فليس الأمر كذلك فى الديانة المسيحية.. ومع هذا فإذا كان المسلمون، يتصورون أن المائدة القبطية عامرة بلحم الخنزير، على كل صنف، وأنواع المشروبات الروحية، فإن تصورهم هذا غير واقعى.. فهم وفى هذه المرحلة بالذات - أقرب ما يكونون إلى إخوانهم المسلمين. فكثير منهم يجاهرون بأنهم لا يأكلون الخنزير. والذين يفعلون هذا، يفعلونه على استحياء.. وقس على هذا تناول الخمور. بل إنهم يكادون يتطابقون هذا مع إخوانهم المسلمين. ولم يكن الوضع، منذ وقت ليس بعيد، على هذه الصورة، ليس فى جيل الأجداد، بل فى جيل الآباء القريب. كما أنه ليس فى الإنجيل أو سيرة السيد المسيح. ما يشير إلى أى درجة من التحريم. بل على العكس، يمكن وضع اليد على روايات ووقائع عكسية. وهذا الموقف ترسخ مع صعود التيارات الإسلامية السياسية. والتى ازداد نفوذها وحضورها فى الشارع. ويلاحظ المؤلف أن الوضع فى المنطقة التى يعيش فيها فى الإسكندرية، كان أفضل منذ عشر سنوات فقط، من حيث مساحة الحرية. حيث كان هناك فى منطقته ثلاث محال لبيع الخمور، أقفلت أبوابها تباعا، ولم تجدد رخصها. مذبحة الخنازير وحين يتعرض لمذبحة الخنازير فى 2009، فإنه يتحدث بألم ومرارة، وهو يشرح ما أحاط بهذه الواقعة من قسوة وجهل. وأبسط ما يذكره أن وزير الزراعة آنذاك، علل أسباب القضاء على هذه الثروة الحيوانية بأن هناك مشاكل فى تربية الخنازير، وأنه استغل هذه الفرصة، ليعيد بناءها بشكل جديد. والذى حدث أنه لم تقم لها قائمة منذ ذلك الوقت. لقد نجحت التيارات الدينية الإسلامية، فى فرض معاييرها فى الطعام والشراب على المسيحيين. وهو يضع مسئوليته مغبة هذا الاستسلام، على عاتق «الشخصية المسيحية» وما تتسم به من «تحفظ» ومسئوليته «سلبية» و«تجنب للصدام» إلى آخر الصفات التى ألقاها بها. وأرى أنه يبالغ كثيرا فى اتهاماته هذه. فمثل هذه المواقف لا تتكون بخفة. وإنما تبينها مؤثرات وتقييمات ومواءمات وليس مجرد كلام. وجو الحرية الذى يفتقده ومن الحق مسئولية المحافظة عليه واستعادته وتطويره، هى مسئولية المواطنين جميعا، مسلمين ومسيحيين بنفس الدرجة. وحتى لا ننسى قائمة طعام المطبخ القبطى، فى غمرة الحماس الذى أشاعه المؤلف أوجزها لك: الفول هو سيد المائدة بلا منازع، فهو الذى يحل محل كل المنتجات الحيوانية، وفى أيام الصيام وأيام الإفطار. وأحيانا يوجد فى وجبتى الإفطار والعشاء، وربما لايختفى إلا يوم العيد. وهو يتسلح بخبرته كطاه ماهر، فى تزويدك بأفضل نسب الملح والليمون والكمون وأنواع الزيت الأنسب والوصفات المتعددة لطبق الفول. الخبز والنبيذ والسمك، مأكولات ذات دلالات دينية. وكل منها فى ثنايا قصص الإنجيل أو معجزات السيد المسيح. وبالنسبة للخبز فهناك فطير الملاك المرتبط بالصيام وفايش الصعيد المرتبط بالإفطار. والأول من عجين الدقيق والزيت والسكر ويضاف إليه الخميرة والماء الدافئ. ويتم عجنهم وتخميرهم لمدة نصف ساعة ثم يوضع فى الفرن لمدة عشر دقائق، ثم تختتم بختم الملاك، وهو ختم خشبى ذو شكل موحد، ويوجد فى كثير من المنازل القبطية. أما الفايش فهو على النقيض من حيث تعدد المكونات والوقت. والسمك يتمتع بمكانة خاصة، وكثير من أوقات الصيام، مسموح فيها تناول الأسماك. والقلقاس هو طعام عيد الغطاس، والملوخية الباردة (الشلولو) فى عيد العذراء، وهو يميل إلى أن جذور قداسة كليهما وقائمة طويلة أخرى، تعود إلى أسباب غير دينية. ولأن المسيح قال وهو على الصليب «أنا عطشان» وإمعانا فى القسوة، قدم له الجندى خلا بدلا من الماء، وتخليدا لهذه الذكرى المؤلمة يصوم الأقباط يوما كاملا مثلما صام المسيح على الصليب، ثم يكسرون صيامهم بجرعة خل، ويعلق المؤلف: إن هذا التقليد المضر بالأمعاء، يحافظ عليه الأقباط بكثير من التشدد. فى أيام العيد، فإن اللحم هو السيد بلا منازع - بعد حرمان 55 يوما - ويكاد يدخل فى كل الأصناف المقدمة، بما فيها طبق البيض المزعلل، فى الصباح، حيث يحاط بالكبد والقوانص، وحتى المحشى الذى يدخل فى قوامه اللحم الضانى، مما يجعله اختراعا قبطيا، إلى حد أن اسمه بين المسلمين «المحشى القبطي»