من أيام قلائل بدأ «الصوم الكبير» عند الأقباط الأرثوذكس، وهو أطول أصوام الكنيسة على مدار السنة والتى يبلغ عدد الصيام فيها 288 يوما، ويحتل الصوم الكبير 55 يوماً منها. والصوم فى المسيحية ليس فرضاً دينياً، فالمسيحية لا تعرف الفروض، ولكن الصوم هو وسيلة لقمع رغبات الذات وشهوات الجسد، والارتفاع بمستوى الروحانيات كما أسس ذلك بولس الرسول «أَقْمَعُ جَسَدِى وَأَسْتَعْبِدُهُ». والصوم كما تعرفة الكنيسة جاء ضمن التعاليم التى سلمها تلاميذ المسيح وحفظت من جيل إلى جيل إلى أن وصلت لنا، وفى الصوم الكبير تفرض الكنيسة على أبنائها الصوم الانقطاعى لمدة لا تقل عن 12 ساعة تكون فى الغالب من بداية اليوم وحتى الظهيرة وغالباً ما ينهى الصائم صومه بصلاة القداس الإلهى ويُفطر على طعام يخلو من الدسم ولحم الحيوان والطيور والأسماك، والعبرة فى ذلك أن الدهون الحيوانية تثير وتنشط الغرائز الجنسية، وهو ما يعيق قمع الجسد والارتقاء الروحى. الميه والملح قديماً كان يسمى الصوم الكبير «صيام الميه والملح»، حيث كان يمتنع أبناء الكنيسة عن طهى أى مأكولات حتى بالزيت النباتى وكانت كل وجباتهم أثناء الصيام تطهى بالماء والملح فقط إمعانا فى الزهد والتقشف فكانوا يقومون «بسلق» الخضروات ورش بعض من الملح عليها ويأكلونها، ولايزال هذا التقليد حتى يومنا هذا متبعًا فى مناطق كثيرة من صعيد مصر، حيث يتم الامتناع أيضاً عن تناول أى حلوى أو أطعمة ذات مذاق شهى، فالغرض من الصيام هو الوصول إلى أقصى درجات ضبط النفس للوصول إلى أعلى مستوى روحى كما ورد بمزامير داود «رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ، وَلَحْمِى هُزِلَ»، ولا يتحقق الهدف من الصوم بدون الصلوات والتحلى بالفضائل، ويفرض من يصومون ب«الميه والملح» على أنفسهم فترات أطول من الانقطاع عن الأكل حتى مغيب الشمس ويُفطرون مع ظهور أول نجم فى السماء، وهو ما يتوافق مع قوانين الكنيسة القبطية (الصوم ليس هو الامتناع عن الخبز والماء، بل الصوم المقبول أمام الرب هو القلب الطاهر، وإذا كان الجسد جائعا وعطشانا، والنفس تأكل فى الأعراض، والقلب يتنجس باللذات، فما هو الربح الذى لصومك»؟ (مجموعة القوانين لابن العسال، الباب 15، فقرة 34). رفاهية الصوم ولأن دوام الحال من المحال، ولأن التجارة بكل ما يتعلق بالدين أصبحت تجارة رائجة، فقد تفتق ذهن البعض عن استغلال فترة الصوم الكبير فى تقديم خدمة متميزة للصفوة من أبناء الكنيسة تضمن لهم التمتع بكل أطياب الطعام وقضاء الصوم المقدس حتى نهايته دون معاناة فى الامتناع عن التمتع بكل ما لذ وطاب وظهرت بدعة «الأكل الصيامى»، حيث يتم تصنيع كل أصناف الطعام التى يدخل فيها الدهن الحيوانى واللحوم بمكونات نباتية تعطى نفس طعم ومذاق الطعام الحيوانى، فظهرت على الساحة منتجات لحوم صيامى ( كفتة - هامبورجر - سجق - شاورمة - لانشون.. إلخ)، كذلك مخبوزات وفطائر صيامى و(جاتوه وتورتة) صيامى ووجدت تلك المنتجات إقبالاً ورواجاً كبيرين بين الأقباط خاصة أنها توزع وتباع داخل الكنائس، وهو ما دفع العديد من المصانع للدخول فى تلك التجارة ودخلت الأديرة فى المنافسة وتحول أقدس أصوام الكنيسة وأكثرها روحانية إلى فترة يتحايل فيها الأقباط على قوانين الكنيسة لتمرير فترة الصوم بسلام وضمان لذة ومتع الدنيا. صوم تيك أواى لم تعد بعد تجارة «الأكل الصيامى» مقصورة على الكنيسة، فلقد خرجت تلك التجارة من الكنيسة واقتحمت محلات الوجبات السريعة وتصدرت الوجبات الصيامى قائمة تلك المحلات، ولأن الإقبال عليها كبير فقد دخلت الكثير من تلك المحلات فى المنافسة فيما بينها للفوز ب «الزبون» القبطى الصائم، وتعددت العروض على تلك الوجبات وأبدع الطهاة فى ابتكار أصناف جديدة وإطلاق أسماء تجارية عليها مثل «كومبو صيامى» و«فاهيتا نباتى» وغيرها وانطلقت الشعارات التجارية الرنانة لدغدغة الوجدان الصيامى، ومن أطرف تلك الشعارات «تذوق معنا متعة الصيام» و«صيامك أحلى معنا» ليتحول الصيام من قمع وتقشف إلى متعة ورفاهية وبدلاً من أن يكون الصوم فترة لمشاركة الفقير إحساس العوز ترتفع تكلفة الصيام ولا يقدر عليه إلا الأغنياء. طرائف صيامية كانت بداية ظهور المأكولات الصيامى فى أواخر العقد الماضى، حيث كان آباء الكنيسة يتندرون عليها ويسخرون منها ويطلقون عليها «صيام الأيدى الناعمة»، وقد حكى البابا شنودة أنه فى أحد أسفاره خارج البلد أقام له أبناء الكنيسة مأدبة طعام فاخرة احتفاء به، وكانت تلك الزيارة أثناء الصوم الكبير ووضعت على مائدة الطعام كل أصناف الأكل الصيامى الحديثة فوجد البابا لحومًا ومنتجات ألبان فتعجب واستغرب وسأل الحاضرين إذا ما كانوا يعلمون أن الكنيسة فى ذلك الوقت تصوم صومها من عدمه، وفوجئ بأن كل تلك المأكولات الفاخرة «صيامى» فضحك وتعجب وقال للحاضرين: «يعنى كل الأكل ده صيامى وشوية المش وحتة الجبنة بتوع الفقير هما اللى فطارى» فى إشارة منه إلى أن الفقير يمتنع عن «المش» فى الصيام لأنه مصنع من لبن حيوانى على الرغم من أنه قوته الوحيد، بينما الصفوة يبتدعون ويبدعون فى رفاهيتهم الصيامى. الكنيسة تبارك على الرغم من أن «الأكل الصيامى» ذى الرفاهية العالية يفقد الصيام الغرض منه ويفرغه من محتواه، فإن الكنيسة لا تمنع ذلك أو حتى تستنكره، بل على العكس فإن الكنيسة تبارك تلك الوجبات الصيامى وتشجع على ترويجها، فلقد صدر كتاب عن فنون الأكلات الصيامى بعنوان «طباخ السفير» عن إحدى دور النشر الخاصة، قام بتأليفه «الشيف» الخاص بالكاتدرائية نبيل صبحى، وباركه البابا تواضروس بكتابة مقدمته، حيث جاء بها: «الكتاب مرجع وافىٍ الشرح يقدم مجموعة هائلة من السلطات والشوربة والأطباق الرئيسية والأسماك بأنواعها والأرز والمكرونة والحلويات الشرقية والغربية والمربى والمخللات والعجائن، ويصحب كل طبق أفكار وطرق تقديم تسهم فى وجبة غذائية مفيدة ومشجعة على ممارسة أيام الصوم خاصة للأطفال والشباب وكل أفراد الأسرة، كما يعد الكتاب بإخراجه الفنى وإعداده المتميز تحفة فنية راقية فى عالم الطبخ وهو فخر لواضعه وكاتبه، أحيى الكاتب والمصور والناشر والقارئ الذى سوف يسعد باقتنائه واستخدامه عملياً من أجل طعام نشكر الله عليه».