يعد كتاب (لغتنا الجميلة) للشاعر فاروق شوشة من الكتب المهمة التى أسهمت فى التعريف بمواطن الجمال فى اللغة العربية، وإبراز أوجه البلاغة فيها. وكان هذا الكتاب قد صدر فى طبعته الأولى عام 1973، وجمع فيه الشاعر محتوى حلقات برنامجه الإذاعى الشهير (لغتنا الجميلة) الذى كتبه وقدمه من الإذاعة المصرية منذ أول سبتمبر عام 1967واستمر فى عطائه حتى ليعد من أشهر البرامج الإذاعية التى اهتمت باللغة العربية وآدابها بما قدمه من عيون الشعر والنثر فى تراثنا العربى. حرية الفصحى لغتنا جميلة بما تمثله هذه اللغة فى جوانب إبداعها الثرى من قيم رفيعة للجمال، ومن مضامين حضارية وإنسانية، ومن تراث حرية فاعل ومتفاعل ومستمر وعاء لهذا الوجود العربى كله إنسانا وتاريخا ومواقف واختيارات وإنجازات كما يقول فاروق شوشة وبما تحتاجه هذه اللغة الآن من جهد عصرى دائب، ودراسات عميقة شاملة لا بُدَّ أن يقوم بها العلماء والخبراء والدارسون والكاتبون والمترجمون والمؤدون، كل فى مجاله لكى تدخل هذه اللغة ساحة القرن الحادى والعشرين، وعصر المعلومات والحاسب الآلى والتكنولوجيا بخطى واثقة، وإمكانيات جديدة مختلفة، وأنظمة تساعدها على التعامل والتفاعل مع معطيات زمن جديد له مطالبه واحتياجاته كما أن له تحدياته؛ خصوصًا مع لغات سبقنا أهلها إلى اللحاق بالعصر، وتبنى وسائله ومناهجه فأتاحوا للغاتهم مزيدا من التطور والتأثير الواسع والسيطرة على مستقبلهم والتحكم به. روح العصر لقد استطاع هذا البرنامج أن يدخل بمستمعيه من باب الجمال، والتذوق، والنظر المتأمل، والفكر الناقد، والمتابعة المستنيرة، وقد انطلق البرنامج من إذاعة القاهرة على موجة البرنامج العام بمقدمته الشهيرة ببيت للشاعر حافظ إبراهيم يقول فيه : (أنا البحر فى أحشائه الدرُ كامن/ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى) وقد اعتمد البرنامج كما يقول فاروق شوشة على العلاقة اليومية – المباشرة والحميمة – بين البرنامج ومستمعيه عبر رسائلهم وتعليقاتهم ورغباتهم وردود أفعالهم حيث ضمت قطاعات الاستماع أذواقًا عدة، ومستويات مختلفة من ثقافات شتى تتراوح بين الأمى والمتخصص مما يكشف عن دور الإذاعة المهم فى سد فراغ المدرسة لمن لم يتلقوا تعليما مناسبا فضلا عن واقع الحال المتمثل فى ارتفاع نسبة الأمية، وقد عمل البرنامج والكتاب على الكشف عن الجديد والطريف والأصيل وما أكثره فى صفحات تراثنا العربى العامر بالكنوز، وقدم صورة متكاملة للغتنا الجميلة بين الماضى والحاضر، بين القديم والجديد، بين الجمال وأسرار البلاغة، بين ثورة الأسلوب وتجديد المجددين، بين واقع هذه اللغة ومشكلاتها المعاصرة مع ألفاظ الحضارة – أى مفردات الحياة العامة ومسمياتها – ومصطلحات العلوم، والاتساع لروح العصر ومنجزات الحضارة، وحصاد حركة الترجمة والتفاعل مع اللغات الأجنبية أخذا وعطاء، هضما وتمثلا، وغنى وكثافة. ويقول كاتبنا : (إن لغتنا الجميلة ظلت عبر القرون الطويلة صامدة نابضة بفضل انفتاحها المستمر على الحضارات والثقافات، واتجاهها الدائم إلى المستقبل، وإنها كانت تفقد حيويتها وجدتها ونبضها عندما يتوقف انفتاح أصحابها على الجديد، وعندما يصبح الماضى هو مثلهم الأعلى المقدس تتجه إليه رؤوسهم دون أن تتجه إلى حيث الهدف الطبيعى وهو المستقبل، فعلينا دائما اجتياز هذه المعادلة الصعبة بين التراث والمعاصرة، نحب تراثنا ونتذوقه وندرسه ولكننا نتجاوزه ولا نكرره، ونعيش بكل وجداننا وعقولنا فى روح العصر ولكن على ركائز ثابتة من التراث، وبهذين الجناحين معا: التراث والمعاصرة يُحلِّق الأدب العربى المعاصر فى مجالات التعبير الأدبى، شعرا وقصة ورواية ومسرحية، وتنبض لغتنا الجميلة بأصالة الحرف العربى ووعى الواقع الجديد والوجدان الجديد). عن فنون اللغة وينهل القارئ من خلال هذا الكتاب بفصوله الثرية المتعددة من نماذج البلاغة الرفيعة عند العرب، ونفحات من بلاغة القرآن الكريم، وتأثر الشعر العربى بالقرآن، وبعض أسرار الإعجاز، وفصل حول التحقيقات اللغوية وتشمل أساليب العصر وتعابيره، وفصل آخر عن ذوق ومقاييس كل عصر، ومعنى البيان عند القدماء، ونبذات عن فنون السجع، والنثر، والنظم، والتلميح، والتذييل، وترديد الأصوات، وحُسن الجرس والإيقاع. من كنوز لغتنا الجميلة ويحتوى الكتاب على مختارات من كنوز لغتنا العربية، ومنها قصيدة (اليتيمة) لدوقلة المنبجى، (وقمر فى بغداد) لابن زريق البغدادى، و(وحيد) لابن الرومى، و(عيون المها) لعلى بن الجهم، (وعبيد الرياح) لمحمود حسن إسماعيل، و(فى انتظار رسالة) لبدر شاكر السياب. ومن أطرف القصائد وأجملها قصيدة (اليتيمة) أى التى لا شبيه لها ولا نظير، وقد ظلت اليتيمة عصورا طويلة مجهولة النسب لا يُعرف اسم شاعرها الحقيقى، وحديثا عًُثر على النص الكامل لليتيمة فى نسخة مخطوطة من المقامات توجد فى الهند منسوبة إلى دوقلة وهو شاعر لم تتحدث عنه كتب الأدب ولا يُعرف له شعر سواها، و(منبج) التى ينتمى إليها الشاعر بلدة بالشام، و(اليتيمة) قصيدة غزلية جميلة متفردة، تفنن الشاعر فيها فى وصف محبوبته (دعد) ومن أبياتها : (لهفى على دعد، وما خُلقت إلا لحر تلهفى دعد بيضاء، قد لبس الأديم بهاء الحُسن، فهو لجلدها جلد ويزين فوديها إذا حَسَرت ضافى الغدائر فاحم جعد فالوجه مثل الصبح مُبيض والشعر مثل الليل مسود ضدان، لما استجمعا حُسنا والضد يظهر حُسنه الضد). بلاغة التعبير عن التجارب الإنسانية وتعد قصيدة (قمر فى بغداد) هى أيضا قصيدة يتيمة فالرواة يقولون أنه لا يُعرف لابن زريق البغدادى قصيدة سواها. ومعاناة هذا الشاعر العميقة نتجت عن تصميمه على الارتحال من بلاده للبحث عن لين العيش، وسعة الرزق، فترك زوجته التى يعشقها فى بغداد قاصدا بلاد الأندلس لكن التوفيق لم يصاحبه ويمرض فى الغربة، وقد نصحته زوجته بعدم السفر لكنه لم يستجب لها، وتعتبر قصيدته (قمر فى بغداد) تجربة أمينة مع الغربة والرحيل، ويزيدها رقة وصدق عاطفة وعمق تجربة ما حمله الشاعر لزوجته من مشاعر غاية فى العذوبة والإخلاص، ومن أبيات هذه القصيدة التى يرجو فيها زوجته ألا تلومه بعدما جرى له فيقول (لا تعذليه فإن العذل يُولعه قد قلت حقا، ولكن ليس يسمعه جاوزتِ فى لومه حدا أضرَّ به من حيث قدرتِ أن اللوم ينفعه فاستعملى الرفق فى تأنيبه، بدلا من عَذلِه، فهو مُضنى القلب موجعه). ويختتم القصيدة مغازلا زوجته حزينا على ما جرى من فراقهما فيقول : (أستودع الله فى بغداد لى قمرا بالكرخ، من فلك الأزرار مطلعُه ودعته، وبودى لو يودعنى صفو الحياة وأنى لا أودعه وكم تشبثت بى يوم الرحيل ضحى وأدمعى مستهلات وأدمعه). لغتنا الجميلة فى فم المعاصرين وقد انتقى فاروق شوشة أيضا أجمل المقطوعات النثرية فى الأدب العربى، ومنها: (دارنا الدمشقية) لنزار قبانى، و(عن الشعر والموسيقى) للدكتور إبراهيم بيومى مدكور، و(الشاعر والمقلد) لجبران خليل جبران، (وإنسان من الشرق) ليحيى حقى، و(زجاجة العطر) لمصطفى صادق الرافعى، و(أى ربى) للدكتور أحمد زكى، و(كلمات قصار) للعقاد، و(ما الكلمة؟) لمى زيادة، (ورأى فى البلاغة) لأحمد حسن الزيات، و(أسلوب فى النقد والتذوق) لأنور المعداوى، واختتم الكتاب بفصل عن أسرار لغتنا الجميلة، ومحاولة لتصحيح الأقوال الشائعة (قل ولا تقل)، فلماذا لا نتبنى دعوة المهتمين بمجال تعليم اللغة العربية فى مدارسنا وجامعاتنا باختيار مثل هذه النصوص الأدبية الرائعة من مختارات كتاب (لغتنا الجميلة)، المادة المدونة لبرنامج إذاعى شَكَّل الذائقة اللغوية للناس على مدى خمسة وأربعين عاما ؟.. لماذا لا نختار من هذه الكنوز من الأشعار، ومن المنثور ما يُدرس فى مدارسنا وجامعاتنا، ومنه ما يفتح الأعين على مواطن الجمال فى لغتنا ويُعرف الأجيال على أسرار سحر لغتنا الجميلة، وكما قال جبران خليل جبران : (إن خير الوسائل بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هى فى قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو الواسطة بين عالم النفس وعالم البحث، وما يفرزه عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين). •