تلازم الإشارة إلى الفيلسوف والسياسى الإيطالى الشهير نيكولو مكيافيلى (1469 - 1527) وكتابه الأشهر (الأمير) والذى كان عملاً يهدف بوضوح لوضع كتيب إرشادات للأمير أو للحاكم أو السياسى، مبدأ سيئ السمعة للغالبية الساحقة من العامة وهو أن الغاية تبرر الوسيلة أو الواسطة. نُشر وذاع صيت كتاب (الأمير) بعد موت مؤلفه، والذى أرسى بين جنباته قاعدة رئيسة فى السياسة الدولية المعاصرة وهى أن كل ما هو مفيد أو (يحقق مصلحة) للحاكم والدولة فهو ضرورى والتى مثلت صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية، وصولاً للقرن العشرين ليتم تفعيل نظريات مكيافيلى وآرائه السياسية وتطبيقها فى مجالات عدة. التنظيم السياسى فى الواقع، يُعد مكيافيلى المؤسس الحقيقى للتنظير السياسى الواقعى،والذى أصبح فيما بعد قاعدة دراسات العلوم السياسية قبل أن يصقلها السياسى النمساوى المخضرم كليمنس فون مترنيخ (1773-1859). ألف مكيافيلى 40 كتاباً منها (المطارحات أو المقارنات) حول الحياة السياسية فى روما فى عصرها الجمهورى الذهبى ونظيرتها فى جمهورية فلورنسا الإيطالية التى شارك شخصياً فى تجربتها الواعدة خلال 15 عاماً عمل فيها كدبلوماسى ورجل دولة ومستشاراً. أفرد العديد من الباحثين عبر 300 عام مئات من المؤلفات الشارحة والناقدة لما يسمى ب(المكيافيلية) التى اُعتبرت بشكل خاطئ على أنها فقط آراء مكيافيلى وأفكاره، وكونها تصف التصرفات الأنانية التى تنتهجها الكيانات الهادفة لتحقيق الأرباح المادية والسلطوية. إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن عبقرى كل العصور ليوناردو دا فنشى (1452- 1519) كان أحد معاصريه يصبح نيكولو مكيافيلى الشخصية المثالية لرجل عصر النهضة، وربما كان من الملائم أن يقال إن مكيافيلى وضع أساساً لنموذج السياسة والإدارة المكيافيلية، عوضاً عن وصفه بالمكيافيلية. الأمير كان لكتاب (الأمير) أيضاً أثر بالغ فى خضم تلك الموجة التى تصاعدت ضد النفوذ السياسى للكنيسة الكاثوليكية على يد أنصار وتابعى الراهب والمصلح الدينى مارتن لوثر (1483- 1546) الذى كان معاصراً لميكافيلى، وهو مؤسس المذهب البروتستانتى أو المحتج. ينبغى النظر أنه ببزوغ شمس عصر النهضة فى أوروبا واكبه بطابع الحال انحسار لنفوذ رجال الدين فى مواجهة الأفكار المادية المبنية على الواقع والتحليل العقلى والاستنباط المنطقى. بصراحة شديدة ودون إثارة نظرات الآباء الغاضبة من خلف نظاراتهم الطبية السميكة وهمهمات الاستهجان من أجدادنا، يصاحب انتشار الأفكار العصرية التقدمية والتطور النزوع إلى الواقعية ونبذ الما ورائيات والقيم المطلقة ووصفها بأوصافها، كما تحل البراغماتية محل الشوفينية والديماغوجية وبالتالى الأحاديث المثالية عن الاخلاق والمعتقدات الدينية والموروثات والعادات الاجتماعية، أيضاً المحاولات العبثية لفرض تلك الأنماط فرضاً على المجتمع دون وضع إطار دستورى أو قانونى لها. المحافظة على قوة الدولة آمن مكيافيلى أن هدف السياسة هو المحافظة على قوة الدولة ووحدتها والعمل على توسيع نفوذها وهو ما لا يتم دون وجود وازع دينى أو أخلاقى،فكان إعجابه بالحكام الذين قاموا بتعضيد سلطانهم غير مبالين بأى رادعٍ كان وأبرزهم على الإطلاق سيزار بروجيا فى سياق الدلالة على صحة مقصده من أن الغاية تُبرر الوسيلة. كما أعرب مكيافيلى عن أفضلية النظام الجمهورى الذى كان أحد رجالاته فى فلورنسا وأن الدولة القوية تقوم على وازعٍ أخلاقى،وإن استخدم الحاكم الوسائل المنافية للأخلاق للوصول لأهدافه مؤكداً على أن ولاء المواطن مُرتبط بمقدار خدمته للمجتمع. كانت نظرته شديدة السلبية للمواطنين من حيث سوء ظنه المزمن بنوايا البشر وسلوكياتهم، وأنهم غالباً ما يركنون إلى الراحة والدعة والتملك بأقل قدر من الخسائر، سواء كانوا مواطنين أو حكاماً، ولذا فيجب على الدولة والحكومات أن تسن من القوانين ما هو كافٍ للحد من نفوذهم. عندما قارن الباحثون بين أرسطو ومكيافيلى أشاروا إلى أن أرسطو أوجد الركن الأول فى العلوم السياسية وهو اعتماد منهج الاستقراء والملاحظة، كما أرسى مكيافيلى الركن الثانى وهو المنهج الموضوعى المُجرد من الاهتمامات الأخلاقية، ولذا يقول عنه أحد تلامذته الفيلسوف الإنجليزى فرانسيس بيكون (1561- 1626): «لقد تناول مكيافيلى الناس كما هم، لا كما يجب أن يكونوا». الأمير تحت الوسادة لم يبدِ أحد من الحكام والأمراء والساسة إعجابهم بنموذج ميكافيلى السياسى علانية بينما كان بعضهم يضع كتابه الأمير تحت وسادته وحمله آخرون مع خزانة كتبهم الخاصة فى كل مكان يذهبون إليه. ما يزال الكثيرون فى بلادنا عامة ونخبة ينشغلون بالوسيلة ومشروعيتها ويتناسون تماماً الهدف، وهو الأولى بالاهتمام والتفكير وذلك بغض النظر عما إذا كان هدفاً لحزب أو جماعة تحترف النشاط العام أو مؤسسة اقتصادية تمارس الأعمال الحرة أو نظام سياسى يقود دولة ومجتمع. يلزم لواضع الهدف السياسى أو الاقتصادى أو المصلحة العامة الوضوح والدقة والواقعية والمنطقية وألا يغيب عن ناظريه فى أى مرحلة ومهما طالت الفترة الزمنية التى يستغرقها تنفيذ الهدف. نوجه سهام النقد فى كثير من الأحيان للأهداف أى الغايات والمقاصد قبل أن يصل بنا تقييمنا لوسائل تنفيذنا لتلك الأهداف. أهداف رجال السياسة ولكن للحكام والأنظمة ورجال الدولة والسياسيين جميعهم دون استثناء أهداف وخطط عمل هدفها إما إحداث تغيير، وذلك نادر للغاية سوى عقب الثورات والهبات الشعبية الكبرى أو بالحفاظ على استقرار الحكم ومواجهة القلاقل. هذا ما يعنينا فى منهج مكيافيلى فى زمننا الحاضر، فمن يحدد بالأساس نبل الغاية وشرعية الهدف؟ إن هو إلا اعتقاد بشرى مبنى على الترجيح لتحقيق مصلحة جماعة من البشر سواء كان مجتمعاً أو أمة فى مواجهة العالم أو فئة داخل مجتمع سواء مثلت أغلبيته أو أقلية تعيش فيه. إذن ما هى النتيجة وما الذى خلصنا إليه؟ الكل بلا استثناء مكيافيليون ولو كرهوا أو غابت عنهم الحقائق أو تقاطع أهدافهم ومصالحهم مع آخرين، بلا جدال أو مواربة أو تجمل تحقيقنا لمصالحنا فى تلك المنطقة أو هذا العالم سيتعارض أو يتنافر بالكلية مع أهداف آخرين حتى لو كانوا قريبون جغرافيا أو وجدانياً أو كانوا حلفاءً حتى وقت قريب. فلنتذكر دائماً أسمى هدف لمكيافيلى وهو قوة الدولة الوطنية وخدمة أمنها ومصالحها القومية ووحدتها وازدهارها واستقرارها فلا يفوق ذلك أى غرض مهما كان مثالياً أو براقاَ. •