مشاهد من مشوار ملئ بالحكايات.. حكايات الحنين إلى الماضى، لمعت فى عين الإذاعى الكبير أحمد أبو السعود - وهو يتذكر رحلته الشاقة بين أروقة الإذاعة المصرية حتى أصبحت جزءًا أصيلا من تفاصيل حياته. كانت الإذاعة - على مدار سنين عدة - الحديث الأبرز الذى جمع أسرة هذا الإذاعى المحارب، صاحب الصوت الرخيم.. كيف ساهم وزملاؤه فى تشكيل وعى المواطنين.. سحر وشغف بين المذيع والمستمع يكتمل بخيال رحب وذكريات لم تستطع الأيام محوها. فى بداية حوارنا معه، لم ينس أن يبدأ بشريكة دربه ومشواره التى تفهمت صعوبته، تحدّث وكأنه فى قلب المعركة، مستعيدًا نجاحاته وأزماته فى «صوت العرب». الإذاعة هى التى اختارتنى «الإذاعة هى التى اختارتنى منذ كنت طالبًا جامعيًا.. وأيضًا حلم أبنائى الذين قدّموا فيها حتى دون علمى.. فأصبحت الإذاعة الحديث الذى يجمع ميولنا واهتماماتنا داخل البيت وخارجه». تخرج أبو السعود فى كلية دار العلوم، وأثناء دراسته الجامعية عمل بالصحافة فى مجلة «العالم العربى» الذى كان يرأس تحريرها، أسعد حسنى، مستدركًا: «كنت أقوم بكتابة وتحرير معظم المجلة، وأيضًا عمل حوارات صحفية أسبوعية مع أبرز المذيعين آنذاك. تعرّف أبو السعود وهو فى الفرقة الرابعة بكلية دار العلوم، على المذيع مكرم البلاسى، الذى كان يعمل بإذاعة صوت العرب، وفوجئ بأنه يطلب منه التقديم فى الإذاعة، كما شجّعه المذيع القدير فاروق خورشيد، قائلا: «أنت صوت حلو.. ليه ما تقدمش فعلا». لم يفكر أبو السعود - كثيرًا فى هذا الأمر - وبالفعل ذهب برفقة مكرم البلاسى، للاختبار فى مسابقة صوت العرب، وبعد نجاحه توجّه إلى البرامج الموجّهة، مستطردًا: «عملت فى البرامج الموجّهة من عام 1961 حتى 1963 وفى عام 1964 بدأ الإعداد لتدشين إذاعة الشرق الأوسط، وهو تاريخ لا يمكن نسيانه على الإطلاق، فقد اختارنى محمد أمين حماد، رئيس الإذاعة وقتها، لأكون رئيسًا للمذيعين، وشاركت فى اختبار أول دفعة للمتقدمين، وكان بينهم سناء منصور، وسوسن سامى، كنت أول صوت على هذه الإذاعة، فقدمت نشرة الأخبار وما يطلبه المستمعون باللغتين العربية والإنجليزية». صوت المعركة فى 1973 عاد الرائد أحمد أبو السعود من جديد إلى «صوت العرب»، لكن تم استدعاؤه للخدمة فى القوات المسلحة، لأنه كان ضابطًا احتياطيا، فقدّم فى الفترة بين 7 أكتوبر و31 ديسمبر، برنامج «صوت المعركة»، ثم حدثت بعض المشاكل، اضطر على إثرها السفر إلى الإمارات - كإعارة - للعمل كخبير فى إذاعة وتليفزيون دبى، معلقًا: «كسابقة لم تحدث من قبل داخل القوات المسلحة، كنت أول ضابط يخرج من الجيش ويتم السماح له بالسفر تنفيذًا لقرار الدكتور عبد القادر حاتم، وزير الإعلام، نائب رئيس الوزراء، آنذاك». يستكمل أبو السعود: «بعد عودتى إلى مصر من الإعارة، رجعت بيتى صوت العرب لأستكمل عملى ونشاطى، وعدت للكتابة فى بعض الصحف والمجلات، ثم طلبت منّى إدارة جامعة الزقازيق، تقديم محاضرات فى الإعلام، لطلبة الليسانس بقسم الإعلام، وألقيت وقتها ندوات عن حرب أكتوبر.. وكيف كانت تدور المعركة وفى القلب منها يستمر العمل الإعلامى». استمر عمل أبو السعود داخل الإذاعة، حتى أصبح رئيسًا للتدريب الإذاعى ل«إذاعة مصر والسودان» ووكيلا ومديرًا عامًا لإذاعة وادى النيل، وساهم فى إنشاء إذاعة القناة بالإسماعيلية، وكان أول مدير لها، ثم تأسيس إذاعة أسوان واختيار فريق عملها. تدهور الإذاعة يؤكد أبو السعود - أن الإذاعة كيان ضخم له هيبته ورونقه، لكنها تعانى الآن من تسيّب خطير، مستدركًا: «تسيّب فى جميع الأقسام وفى كل شىء.. لا بد من عودة وزير الإعلام، لأن الإذاعة دون وزير كالطبخ دون طباخ». يتعجب أبو السعود: «طول عمرى لم أشتك أبدًا من مستوى التدريب أو البرامج المقدمة.. كل الطرق كانت تؤدى إلى التميز والنجاح، لكن الآن أجلس أمام المحطات التليفزيونية والإذاعية، لأنتقد كل ما يقدم.. هناك أخطاء جسيمة فى اللغة العربية كما أن الأداء هش وضعيف للغاية». يرى ضرورة كبيرة لوضع القنوات الخاصة تحت الرقابة، حتى لا تخرج عن السياق المحدد والخط المرسوم للدولة، كما أن الإذاعة الرسمية أيضًا لا تساعد فى وضع خطوط للإعلام الخاص، إلا نماذج بسيطة تعد جيدة فى حد ذاتها. من يجلس أمام الميكروفون «ما يحدث الآن يصل إلى حد التهريج، فلا يوجد من ينتبه ويحاسب المخطئ» - هكذا يصف أبو السعود - حال الإعلام فى مصر، موضحًا أنه ليس بالضرورى أن يكون المذيع خريج إعلام، لأنه ليس كل خريج إعلام يصلح للجلوس على هذا الكرسى» يحكى: «شاركت فى العديد من لجان تحكيم المهرجانات، ووجدت بالفعل أن بعض المتواجدين لا يصلحون إطلاقًا، واندهشت كيف تم اختيارهم»، مؤكدًا أن المذيع يجب أن يمر بمراحل تدريب عديدة، تحت قيادة واعية مدركة لتطور الأحداث. سحر الإذاعة يشير أبو السعود - إلى أن الإذاعة ساهمت بشكل كبير فى تشكيل وجدان أجيال كاملة، كما كان دورها إيجابيًا فى الوحدة التى تجسدت خلال حرب 1973 إلى أن تجلّت مشاركتها بقوة فى المساندة الشعبية للرئيس عبدالفتاح السيسى فى مواجهة دولة الإخوان. يقول أبو السعود: «الإذاعة لها دور مهنى وثقافى وسياسى وترفيهى، وكل ما يخطر على بالك، فكان البرنامج الترفيهى الراقى أيامنا يختلف كثيرًا عما يتم تقديمه هذه الأيام، فمن كان لا يستطيع القراءة والكتابة، كان يتحدث كالمثقفين، نتيجة المحتوى الذى تلقاه واستوعبه جيدًا.. اختفى سحر الإذاعة». نجوم الراديو «فقد مستمع الراديو الآن شغفه وتعلّقه بالمذيع الذى يجلس وراء الميكروفون، بعدما كان يتخيل ملامحه ويترك العنان لخياله للعب دور البطل فيما يدور بين أذنيه». واقعة طريفة تذكرها أبو السعود - تتعلق بخيال المستمع - فأثناء وجوده بالأردن، دخل إلى محل للعب الأطفال، وبمجرد أن بدأ أسئلته حول الألعاب المتاحة، التفت إليه صاحب المحل، قائلا: «أنت أحمد أبو السعود بتاع صوت العرب؟». تكررت هذه الحالة كثيرًا مع - أبو السعود - فى سلطنة عمان واليمن ودول عربية، ما يعزز تأثير الإذاعة المصرية آنذاك، وقدرة المذيع الناجح ومدى تأثيره فى المواطنين حول العالم العربى. المحارب «تجربة الاحتراف الإذاعى قلما أن تتكرر مع شخص أو اثنين.. قليل جدًا من حافظوا على مكتسباتها، هذه التجربة أثرت علىّ تأثيراً بالغاً وشكلت إدراكى لكل شىء حولى، فأصبحت واعيًا لكل صغيرة وكبيرة حولى».. هكذا يحكى المحارب أحمد أبو السعود. يوضح أبو السعود - أنه يستمع الآن إلى صوت العرب والشرق الأوسط والبرنامج العام، وراديو 9090 وراديو النيل من الإذاعات الخاصة. الحنين إلى صوت العرب لمعت عين أبو السعود حين تذكر تفاصيل رحلته فى إذاعة صوت العرب، متابعًا: «صوت العرب دى حياتى.. عمرى كله، أقسم بالله أننى دائمًا أشعر بالدموع فى عينى حين أسمع اسم إذاعة صوت العرب.. فخر لى العمل فى هذه الإذاعة». يشير أبو السعود - إلى أن مهمة إذاعة صوت العرب الرئيسية، مهمة سياسية فى المقام الأول والأخير، مشددًا على ضرورة الانضباط والالتزام الأخلاقى ثم انتهاج المهنية. يتابع أبو السعود: «لا يصح بأى حال من الأحوال أن أكون مذيعًا وأهرّج على الراديو.. لكن للأسف الإعلام الآن أصبح مهنة من لا مهنة له، لقب الإعلامى أصبح مستباحًا للجميع».•