الحديث مع الدكتور ياسر منجى، الأستاذ المساعد بكلية الفنون الجميلة، لا يشبه الحوارات التقليدية الدارجة، متكاثرة الأسئلة والهمهمات المتقطعة؛ كونه يبدو كقطعة من الماضى العتيق، يرسم فيها فنان صورة الماضى فى ثوبه ويحتفظ بقدر كبير من الهدوء فى نفسه والجمال فى حضوره، وكأنه يقرأ من كتاب، فلا يحتاج إلى أسئلة كثيرة، ليسرد رحلة من المعرفة والثراء والرقى. فى ذكرى مرور 110 أعوام على تأسيس كلية الفنون الجميلة المصرية، يحكى منجى - الناقد والمؤرخ الفنى، عضو المجلس الدولى للمتاحف - تاريخ نشأة الكلية ومؤسسها الأمير يوسف كمال وكيف كانت الحركة التشكيلية آنذاك. يبدأ منجي- حديثه عن نشأة الكلية.. أسسها الأمير يوسف كمال، بعدما عرض الفكرة عليه، النحات الفرنسى «جيلام لابلان»، تحت مسمى مدرسة الفنون الجمية المصرية، فى 12 مايو عام 1908، وأصبحت تحت إشراف وزارة المعارف العمومية عام 1910، قائلًا: إنها تحولت إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة عام 1928 ثم باسم الكلية الملكية للفنون الجميلة عام 1950، وفى عام 1953 تحولت إلى كلية الفنون الجميلة وبعدها ضمت إلى وزارة التعليم العالى عام 1961 حتى أصبحت ضمن كليات جامعة حلوان فى عام 1975. يؤكد منجى، أنه نظرًا للهوية المنفردة والتاريخ الممتد لأكثر من مئة عام لكلية الفنون الجميلة، أخذت على عاتقها خلق خريج منفرد فنيًا ومعماريًا، يساهم فى خدمة المجتمع وتنمية البيئة، وتساهم أيضًا فى رفع الذوق العام والحس الفنى. يصف منجى، يوسف كمال - الذى أنشأ مدرسة الفنون الجميلة - بعبارات طربية تحن لها مشاعر الزمن الجميل - موضحًا أنه كان أميرًا من طراز رفيع، يهوى الفنون، رحالة وصياد جاء بداية القرن الماضى، ليؤسس مدرسة تضم موهوبى مصر على غرار أكاديمية «فلورنسا» بإيطاليا و«البوزار» بفرنسا. يسترسل منجى - فى حكاية الأرض التى كانت منبتًا لزراعة أسس الفن ومبادئه: «فى يوم 12 مايو 1908، ببيت يحمل رقم 100 بدرب الجماميز، تقدم فى افتتاح مدرسة الفنون الجميلة 700 طالب، تم قبول 300 منهم لنظام دراسى قاس جدًا، ليبقى المتميزون فقط، حتى تخرجت الدفعة الاولى بعد مرور ثلاثة أعوام، ولم يبق منهم الآن سوى، محمود مختار، ومحمد حسن، وراغب عياد، ويوسف كمال، وأحمد صبرى. لا حرج فى الفن كان العصر مؤهلًا لممارسة الفن وتطويع الأرض له - يشير منجى، إلى أنه كان عصر استنارة واسعة، دعا لها الإمام المجدد، محمد عبده، بعدما سمح بدراسة الفنون وممارستها، فهى لا تمثل حرجًا دينيًا على الإطلاق؛ كونها افتقدت علة حداثة العهد بالوثنية، إبان التحريم، كما تزامنت مع أفكار قاسم أمين، لتحرر المرأة، وظهور هدى شعراوى، وشهدت الفترة أيضًا، ظهور أدباء، كالمازنى والعقاد وطه حسين. يضيف منجي: «وبعد خروج المصريين من الولاء العثمانى وظهور القومية الحديثة، كان السياق العام مؤهلًا ومتعطشًا لقبول نموذج متحضر للحياة، وربما اختير النموذج الأوروبى الجاهز، لأن البلاد كانت تحت قبضة الاحتلال العثمانى والانجليز، ولا تتمتع بالتعافى الذى يسمح بتقديم نموذج أصيل». الأمير الصياد كمال يوسف، هو ابن الأمير أحمد رفعت من أولاد طوسون بن إبراهيم باشا بن محمد على الكبير، وكان أغنى أمير فى العائلة المالكة على الإطلاق. يستكمل منجي: «هذا الأمير كان من أكبر هواة الموسيقى، حتى خصص قاعة فى قصره للسماع.. كان صيادًا بارعًا وتمثل حيواناته المحنطة نصف محتويات المتحف الزراعى الآن تقريبًا». يعد الأمير يوسف كمال من أكبر دعاة الفن، وتجلى حبه للفنون عندما أنشأ مدرسة للفنون الجميلة على نسق معاهد الفن فى أوروبا، وأنفق عليها من ماله الخاص، ورصد لها من ريع أرضه ما يمكنها من النهوض بمهمتها، وظلت تلك المدرسة تحت الإشراف الشخصى للأمير يوسف كمال، حتى ضمتها وزارة المعارف عام 1928. قدم الأمير يوسف كمال، خدمات جليلة للفن والثقافة؛ فرَعى جمعية محبى الفنون الجميلة المصرية، فور تأسيسها، وأوقف مجموعة من أثمن مقتنياته على دار الآثار العربية والإسلامية المصرية (متحف الفن الإسلامى حاليًا) لينتفع بها، ويصرف ريعها من الرسوم التى يدفعها الزائرون للفقراء والمحتاجين، كما أوقف مجموعات من اللوحات الفنية والكتب والمراجع الخاصة بالفنون الجميلة وبالعمارة وبعض الصور المجسمة، ليستفيد منها المشاهدون وطلاب العلم والمبدعون دون مقابل، وأهدى أيضًا آلاف الكتب المصورة عن الطيور والحيوانات إلى دار الكتب المصرية وجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا)، فضلًا عن مجموعة قصوره البديعة بالقاهرة ونجع حمادى - والتى تعد فى ذاتها فرائد معمارية حافلة بشتى أنواع الفنون على اختلاف تطبيقاتها. ويتجلى دعم يوسف كمال للعلم من خلال مجموعته الفريدة «المجموعة الكمالية فى جغرافيا مصر والقارة الإفريقية» التى تعد أضخم مؤلف جغرافى فى العالم حتى الآن عن جغرافية القارة السمراء، كما تعد أكمل ما صدر فى هذا الباب. ذاكرة المرحلة يلفت منجى - إلى أن الأمير يوسف كمال استقدم مجموعة فنانين هم: جيلان لابلان، النحات الفرنسى، وباولو فروشيلا، المصور الإيطالى، وجابريل بيسى، وهنرى بيرون، المهندس المعمارى، للتدريس فى ثلاثة أقسام أساسية (نحت وتصوير وعمارة)، ثم بعد ذلك لحقهم قسم الديكور. بعد انتهاء الدراسة يبتعث أهم النجباء للدراسة بالخارج، لمدة أربعة أعوام بين فرنسا وإيطاليا. يوضح منجى، أن مدرسة الفنون الجميلة تنقلت بين أكثر من مقر؛ كونها وقف وغير تابعة للحكومة، فمن ميدان السيدة زينب، إلى نظارة المعارف آنذاك للإشراف عليها مع استمرار الوقف المتعين لها، ثم إلى ميدان خلاط بمنطقة شبرا، وبعد فترة بسيطة نقلت لميدان قريب من شارع الجيزة، واستقرت منذ عام 1943 حتى الآن بحى الزمالك الراقى. خضعت «نظارة الكلية» وإدارتها والتدريس بها للأجانب إلى عام 1937، حتى إتمام معاهدة 1936، بين النحاس باشا والإنجليز - والتى نصت على تمصير الوظائف».. يستكمل منجي: «جاء محمد ناجى ليكون أول ناظر مصرى لمدرسة الفنون، ثم من بعده يوسف كامل وتوالت سلسلة العمداء المصريين ما بين معماريين، مثل عبدالمنعم هيكل وعوض كامل، ثم اندرجت تحت ولاية جامعة حلوان، بعد تأسيسها عام 1977». عن ظروف التأسيس، يستفيض منجي: «الفنان مارتان من الرعيل الأول الذين استقدمهم يوسف كمال، وظل فى مصر حتى وفاته.. عشق الأماكن القديمة، مثل الحسين ومجرى العيون وغيرهما، واعتاد على التجول فى أرجاء مصر بدراجته، وخلال تدريسه بالمدرسة، أرسى تقاليد أساسية فى منهجه، مثل مادة المناظر الخلوية، كما أنشأ بيت الفنانين فى درب اللبان (بيت المعمار حاليًا)، ما حفّز آخرون من بعده، مثل ناجى وحسن فتحى ورمسيس وواصف ورمسيس يونان وغيرهم. أزمة التوثيق التراث الفنى المصرى يعانى نوعًا خطيرًا من الإهمال، وهو ذاك المتعلق بعدم التدقيق فى كتابة التاريخ الفنى الوطنى، والتساهل فى تداول المعلومات التى توثق سير الفنانين من أبناء الأجيال الأولى فى الحركة التشكيلية المصرية، أولئك الذين مورست بحقهم ألوان من التفريط التوثيقى. يشدد منجى - على أن الأمر يزداد سوءًا - عندما ننتقل إلى كتابات كثيرين من المحسوبين على الكتابة النقدية ويصاحبهم فى ذلك طبقة عريضة من الممارسين للكتابة الصحفية فى حقل الفن التشكيلى ونقده، نتج عن ذلك غياب بعض الفنانين المهمين عن دائرة الضوء البحثى والتوثيقى. يتضح ذلك حين الالتفات إلى قائمة أسماء الفنانين الأجانب الذين أسسوا مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة، كأول أكاديمية فنية تقوم فى الشرق وفق النهج الأوروبى الحديث، بأولئك الفنانين مختلفى الجنسيات الذين وفدوا على مصر مطلع القرن العشرين. يؤكد منجى، أن الأمر لا يتعدى بضع إشارات متناثرة، تشمل ذكر الأسماء وبعض الأحداث المقتضبة دون سند موثق، يتأكد هذا الإهدار بغياب أى أصول يعول عليها فى التوثيق وحتى الكلية الأم التى اضطلعوا بتأسيسها لا تحتفظ ضمن وثائقها بأى أوراق أصلية تخصهم، كما لا يوجد عمل فنى واحد ضمن مقتنيات الكلية أو متحفها التاريخى، وكأن كلية فنون جميلة فقدت ذاكرة المرحلة التأسيسية الأولى من تاريخها، واكتفت بترديد مجموعة من الأسماء. تطور الحركة التشكيلية فى مصر منذ نشأت المدرسة إلى الثلاثينيات كان يغلب عليها الطابع الواقعى ونقل المرئى، وبدأ التمرد مع الأربعينيات، فظهرت مجموعة ذات طابع غربى، مقابل مجموعة الفن المعاصر التى تمسّكت بالهوية، لكن اتفقت المجموعتان على فكرة التغيير الذى طرأ - يحكى منجي: «بعد الثورة كانت الأولوية للفكر القومى ومتابعة الأحداث المهمة، مثل بناء السد ونقل معبد أبوسمبل، واقتربت إبان تلك الفترة من الواقعية الاشتراكية حتى أوائل السبعينيات، فتشتت الرؤى، وكان الاختيار بين الاستمرار فى القومية أو الانفتاح أمرًا قائمًا، إلى جانب أن مجموعة أخرى تأثرت بالثقافة الغربية التى أثرت فى السينما والأدب فانتعش التجريد والتجريب والجنوح للذاتية، وقوى هذا الخط مع بداية الثمانينيات مع جماعة المحور أولئك الذين تضمن المنيفستو الخاص بهم أنه لا وصاية عليهم ولا حد للتجريب عندهم». الأكاديميون أو مدرسو الفنون الجميلة - هم الذين قادوا حركات التغيير ومسيرة التطور، بداية من يوسف كامل وأحمد صبرى وراغب عياد، وصولًا إلى أولئك الذين لعبوا دورًا أكاديميًا كبيرًا، مثل بيكار وغيره الذين وضعوا لبنات التطور والتحول فى تاريخ الفن المصرى. يتابع منجي: «فى ذات الوقت، أسس الحسين فوزى، القواعد الأولى للرسوم الصحفية فى جريدتى الرسالة والأهرام، وكذلك عبدالسلام الشريف وحسين بيكار، لتشكيل ذائقة الناس خلال فترة كانت وسائل الإعلام فيها غير واسعة الانتشار، وفى أواخر السبعينيات، امتلأ الجو العام بفنانين أصحاب نهج ونظرية مختلفة، أمثال منير كنعان وحامد عبدالله والسيوى، وساهم هذا فى اتساع محيط ومجال الفن». مكانة الكلية الخاصة لكلية الفنون الجميلة المصرية مكانتها المنفردة إقليميًا؛ كونها أول شكل عربى لتعليم الفنون، فكانت أقدم الحركات الفنية عربيًا فى الجزائر، لكنها كانت خاضعة للاحتلال الفرنسى وكانت مدرسة الفنون لديهم خاصة للفرنسيين أو الأسر المتواطئة مع الاحتلال، أمّا بلبنان، فكانت اجتهادات فردية لفنانين سافروا للدراسة بالخارج، أواخر القرن التاسع عشر، أمثال سليم حداد ومصطفى فروخ. يؤكد منجى، لم تحظ هذه الدراسة بالشكل النظامى لها، على عكس مدرسة الفنون الجميلة المصرية - والتى كان لها إسهامات عديدة فى حركة الفن التشكيلى. أزمة النقد نقد الفن التشكيلى، بدأ كاجتهاد كتبه الأجانب ضمن مجلات بلغات أجنبية، ولم يكن نقدًا منهجيًا بقدر ما كان إعلاميًا دعائيًا فحسب. يوضح منجى، أن أحمد راسم، يعد أول ناقد مصرى يؤسس لكتابة منهجية فى الفن التشكيلى، بعدما أهلته ثقافته الواسعة؛ كونه شاعرًا وقارئًا بعدة لغات لتلك المهمة، كما ظهر أواخر الثلاثينيات، حبيب يوسف عازر، المعروف باسم إيميه آزار وترك كتابًا بالغ الأهمية، وهو «الفن المصرى الحديث»، الذى ترجمه مؤخرًا، إدوارد الخراط. «ظهر رمسيس يونان بعد ذلك، بثقافته الموسوعية، وكذلك جورج حنين، لكنه غلب عليه اهتمامه بالأدب»، يردف مجني: «ظهر أيضًا فى الأربعينيات، مجموعة أخرى، كان على رأسهم محمد صدقى الجباخانجى، والذى غلب على كتاباته لغة التأريخ، رغم أن إسهاماته أيضًا فى النقد، لا تنكر أبدًا، حتى ظهر من لديهم الحس النقدى الأصيل، مثل حسن عثمان، والجويلى، وصبحى الشارونى، أولئك الذين عملوا بالصحافة لفترة طويلة». يؤكد منجى، أن النقد يحتاج إلى ثقافة تشكيلية واسعة، فضلًا عن ثقافة عامة واسعة من أجل ربط العمل بسياقات كثيرة أخرى، وكذلك القدرة على تأويله بدقة، إلى جانب أن النقد فى حد ذاته لا يلقى تشجيعًا أدبيًا؛ بل ربما يواجه بعداوة حادة». «فترة التحولات الحالية لم تعد بحاجة لناقد، لأن الجاليريهات الخاصة أو دور العرض المختلفة، أصبحت صاحبة الكلمة العليا فى مصير الفنانين».. يشير الأستاذ المساعد بكلية الفنون الجميلية، إلى أنه في المرحلة المقبلة، سيسير الفنان خلف منسق العروص، الذى انتزع الأولوية والظهور من النقاد، خاصة أنه شخصية سهلة التحرك والسفر بين البلدان ولديه هامش من الثراء والعلاقات بالمؤسسات الفاعلة ودور المزادات والمتاحف، وربما لديه جنسيات مزدوجة، تسهل السفر والتواجد فى المحافل الفنية كافة.•