تغير العالم تماما بعد خمسينيات القرن الماضى لوقتنا هذا .. خاصة فترة التسعينيات التى كانت الفترة الأكثر قدرة على تجسيد المتغيرات التى أنتجتها وسائل الإعلام والاتصالات المختلفة وأبرزها الأقمار الصناعية، والإنترنت، والتليفون المحمول، التى ساهمت فى جعل العالم قرية صغيرة. ورسمت صورة الإنسان العصرى بالطريقة التى صاغها له خبراء العالم فى السياسة وعلم الاجتماع والعلوم العسكرية و.. و.. فى ظل الواقع المصرى الذى يعتبر صراعه ضد الأصولية الدينية، أحد أهم ملامحه التى استمرت معه منذ السبعينيات... لوقتنا هذا! بداية ظهور النشطاء يطلق عليه الجيل الذهبى، أو جيل الألفية، ويُعد الانفتاح الثقافى، والطموح، فالرغبة فى التميز من أهم ملامح صفات أبنائه وبناته، لما قدمه لهم من علوم وفنون وأحداث تسهم فى الخروج من الذات، والتطلع، والمشاركة المجتمعية. لكن الرغبة المستمرة فى حب الظهور، وإثبات الذات، والتمرد السلبى تعتبر من أهم السلبيات التى أصابتهم أيضا، بل وليس مستبعدا أنها الصفات التى مهدت لميلاد «النشطاء» الذين نجحت بعض الجمعيات الأهلية الخارجية والداخلية فى التقاطهم، وإلقاء الضوء عليهم باعتبارهم الزعامات والقيادات الشابة التى ستسهم فى تغيير مستقبل مصر ! وخاصة أصحاب "الصوت العالي" الذين كانت هذه الجهات -بقصد أو بغير قصد - تشجعهم وتحثهم على ممارسة تلك الصفة، فجعلتهم -على سبيل المثال- ضيوفا دائمين فى ندواتهم، وأصحاب الرأى والكلمة الأخيرة فى مناقشاتهم، حتى صدق هؤلاء الشباب أنفسهم ورأيناهم يحركون المجتمع بقضاياهم، ويشكلون رؤاه من خلال اهتماماتهم، التى نقلتها لنا القنوات الفضائية، وتم إرسالها كأخبار للقنوات العالمية، و..و.. فصار لهذه الأسماء وزن وقيمة. وأصبحت تردد الآراء أو تناقش القضايا بمنظور تلك الهيئات والمؤسسات التى تُكبِر من شأنهم، وتأخذهم إلى آفاق لم يتعرفوا عليها، فمن أمريكا إلى ألمانيا، إلى إنجلترا، مؤتمرات وفنادق 5 نجوم، وزيارات واستقبالات و .. و ... فصار معروفا ما الذى يجب أن يقال ، وبأى صوت، لكى يرضى عنهم من ينظمون لهم حياتهم الجديدة، وقد أصبحت جديدة بحق. على الأصل دوّر وما أسهل أن تذكر اسما من أسماء هؤلاء النشطاء أمام بعض أعضاء الجمعيات الأهلية، فيذكرون لك تاريخ كل منهم منذ لحظة ظهوره على ساحة العمل الأهلى والتنموى، كهذا الذى كان لا يجد قوت يومه، وهذا الذى كان يسكن فى أصعب المناطق العشوائية، وهذه "المقشفة" التى كانت لا تجد ثمن صابونة تغسل بها وجهها، ..و...و.. ثم تغير وتبدل كل شىء فى ليلة وضحاها كما يقال! جميعهم صاروا اليوم يسكنون فى أرقى المناطق، ويركبون أحدث موديلات السيارات، ويرتدون أحدث الأزياء والصيحات، لمجرد أنهم اكتشفو ا موهبة صوتهم العالي! لم تسمع صوتى ... ذات يوم، دُعيت لحضور إحدى الندوات التى تديرها هيئة دولية كبيرة فى مصر بالتعاون مع بعض الجمعيات المصرية .. لمناقشة حقوق المرأة فى ضوء مؤتمر القاهرة للسكان الذى عقد عام 1994، وبدأتُ أتأمل الحضور من الجنسين .. وكيف يتنافس الجميع للإدلاء بآرائهم أمام الميكروفون، وعبر بعض الفضائيات والإذاعات العالمية. حتى لاحظتْ مقررة الندوة أننى أكاد أكون الوحيدة ،التى لم أتحدث ولم أقدم رأيى فيما يقال، فاقتربتْ منى وبأسلوب شبه محذر وشبه متأسف أبلغتنى برسالة مفادها أنها نادمة على دعوتى، باعتبارى الشخص الذى لم "تسمع صوته"، ولم يهتم باستعراض خبراته فى مجال الحقوق وسرد القصص والحكايات التى تظهرنا كشعب متخلف ولا فائدة فى تقدمنا وتطويرنا، إلا بصرف المزيد من الأموال على مثل هذه الندوات وورش العمل، بمشاركة نجوم المجتمع الجدد من النشطاء، أصحاب الصوت العالى الذى يكاد يصل للردح والهمجية (باعتبارها صفات تدل على التمرد والشجاعة والحرية)، بحجة امتلاكهم القدرة على التعبير والرؤية الثاقبة فى النقد والهجوم والاعتراض، رغبة في التغيير، والدفاع عن حقوق الناس! جيل فرض صفاته ... المثير أن كل فنون وعلوم واكتشافات ذلك العقد .. لم تؤدِ لتطوير البشر بالقدر الذى كان يجب أن يلعبه دور تلك العلوم والفنون فى ظل التطور العلمى لوسائل الاتصال، فأصبح من الطبيعى أن يسود الزيف، والفجاجة فى المعاملات، وتتسلط الأنانية وغربة الإنسان حتى عن ذاته! ولم يعد غريبا أن صفات عقد التسعينيات التى شكلت وجدان وكيان وذهنية أبنائه تمتد لتسيطر على أبناء الجيل السابق، فرأينا الكبار إيضا يتنافسون لإثبات الأنا، ويتداولون مبدأ أنا وبعدى الطوفان، وأبو صوت عالى يكسب، حتى لو كان كلامه تهبيشا وتلطيشا، كالذى بدأه نشطاء الجمعيات الأهلية، وصارت القاعدة هي: كلما قال الشخص كلاما مجعلصا ثقيل الفهم بصوت عال ونبرات محمومة، كلما بدا عظيما وحكيما! فهل نجرؤ على التعجب أن نراه ضيفا مستديما على برامج التوك شو؟ أو نملك أن نضرب كفا على كف أن رأيناه يكتب على صفحات الجرائد والمجلات باعتباره ناشط حقوقى أو انسانى أو فى أى مجال من المجالات التى تتطلب صفة الصوت العالى ؟ وليقل الشخص ما يقول، فطالما كان صوته عاليا، كلما كان مسموعا، فهكذا تعلمنا، وهكذا نعيش، فنحن شعب نصفه أمى، ونصف مثقفيه أشباه متعلمين، المهم الصوت!