السينما كانت منذ بداياتها مرآة المجتمع تعبر عن آلامه وآماله، يرى فيها الجمهور نفسه ويعتبرها المتنفس عما يعانى منه. صحيح فقدت البوصلة فى أوقات كثيرة ودخلت فى دوامات من هبوط المستوى ورضخت للعبة المكسب وشعار «اللى تكسب به العب به»، لكنها سرعان ما تسترد اتجاهها الصحيح. ورغم أن البعض يرى أن وظيفة السينما الرئيسية هى الترفيه والتسلية، لكن فى مجتمعنا الذى يواجه تحديات وأخطارًا عديدة لا يمكن أن تقتصر السينما على تلك الوظيفة. والحقيقة أن السينما المصرية لم تقف فى أى من مراحلها عند هذا الدور فقط، وإنما تجاوزته بكثير لتكون معبرة عما يدور فى المجتمع، بل كانت أيضا جرس إنذار لكثير من الأخطار، حتى إننا لا نبالغ إذا قلنا إن السينما - ومن خلال بعض أفلامها الشهيرة - كانت تتنبأ بالتغييرات التى ستحدث فى المجتمع المصري، وهو ما حدث بالفعل. ولا أنسى على سبيل المثال فيلم «هى فوضي» للمخرج الراحل يوسف شاهين ومساعده فى ذلك الوقت المخرج خالد يوسف وكيف تنبأ بثورة الناس على القهر الذى يمكن أن يحول الأمر فى النهاية لفوضى حقيقية. ورغم أن السينما كانت دائمًا الفن الذى يجد الجمهور نفسه فيه، لكنها مرت بمطبات عديدة خلال الثلاثين عاما الماضية، ففى الثمانينيات على سبيل المثال ظهرت هوجة الأفلام المسماة بالمقاولات التى هبطت بحال السينما المصرية وفصلتها عن مجتمعها تماما، ولم يهتم منتجوها سوى بالمكسب المادى فقط حتى إن هناك أفلامًا كانت تنتج لتعرض فقط فى القنوات الفضائية، دون أن يهتم صناعها بعرضها جماهيريًا فى السينمات مادام العرض فى الفضائيات يحقق المكاسب المطلوبة. وأدت هوجة تلك الأفلام إلى جلوس الكثير من النجوم الكبار فى بيوتهم دون عمل خاصة من رفضوا التورط فى هذه النوعية من الأفلام، التى كان لها منتجوها ومخرجوها وأبطالها مثل سعيد صالح ويونس شلبى وسمير غانم وهياتم وسميرة صدقى ونبيلة كرم وغيرها من الأسماء التى قبلت التواجد فى هذه النوعية من الأفلام والتى سيطرت على السينما لسنوات طويلة. وإن كانت أفلام المقاولات مرضًا ضرب السينما المصرية فى فترة ما فإنه لم يستطع أن يقتلها لأن السينما المصرية تمرض ولا تموت، واستطاعت أن تستفيق من تلك الهوجة لتعود موجة الأفلام التى تحترم عقلية وأحاسيس المشاهد والتى تعبر عن أحواله واهتماماته وهى موجة قادها مخرجون مثل عاطف الطيب وخيرى بشارة ومحمد خان وشريف عرفة ومجدى أحمد علي، ونجوم أمثال أحمد زكى وعادل إمام ومحمود عبدالعزيز ونور الشريف ويسرا وليلى علوى وإلهام شاهين، ونجح هؤلاء بما قدموه وقتها فى مواجهة هوجة أفلام المقاولات. لكن السينما عادت لتسقط على مرض آخر بعد اكتشاف بعض المنتجين بئر مكاسب اسمه الكوميديا لتعيش السينما هوجة من الأفلام الكوميدية اختفت بجوارها كل نوعيات السينما الأخري، وحاول المنتجون الضخ بأسماء جديدة بعد أن لمسوا رغبة الجمهور فى تغيير الوجوه التى يراها. وبالفعل ظهر جيل محمد هنيدى وعلاء ولى الدين وأحمد آدم وأشرف عبدالباقى ومحمد سعد الذين كانت لهم بعض الأفلام الناجحة، لكن المشكلة كانت تكمن فى حالة التقليد الأعمى لنجاحهم، والجرى وراء نفس النوعية التى قدموها، فظهرت هوجة من أفلام الكوميديا بلا أى مضمون وأى صورة، وإنما مجرد إيفيهات ليس أكثر. ورغم أن الكوميديا مطلوبة دائمًا، لكن تلك الهوجة من أفلام الإيفيهات كانت مرضًا آخر سيطر على السينما المصرية طويلاً التى عرفت من جديد كيف تستفيق منه لتعود إلى اتجاهها الصحيح وتظهر نوعيات أخرى من الأفلام بجوار الكوميديا التى تشبع منها الجمهور، فكانت هناك أفلام جادة وأخرى أكشن وثالثة اجتماعية ورابعة رومانسية وعادت السينما لترضى جميع الأذواق ولتعبر عن الجميع وتنتفض من دوامة أفلام الإيفيهات. وكالعادة لا تستمر السينما المصرية على حالها طويلاً، وسرعان ما ظهرت نوعية من الأفلام ليست سوى مطرب وراقصة وهى الأفلام التى واكبت ما يعرف بأغانى المهرجانات لتغرق السينما فى مرض جديد اسمه «مطرب وراقصة»، وظهرت نوعيات من الأبطال مثل سعد الصغير ومحمود الليثى وصافيناز وغيرهم وشجع المنتجين على الاستمرار فى تقديم تلك النوعية من الأفلام النجاح التجارى لبعضها خاصة أن ميزانياتها ضعيفة وإيراداتها تحقق لهؤلاء المنتجين مكاسب ضخمة وكانت النتيجة أن السينما غرقت فى أفلام المطرب والراقصة وكأنها فى وادى وقضايا المجتمع فى وادٍ آخر ورفع صناع تلك السينما الشعار الأكذوبة: «الجمهور عايز كده» ولم تستطع أن تواكب التحديات الموجودة فى المجتمع خاصة فى السنوات القليلة الأخيرة، ورغم ظهور تجارب سينمائية مهمة، لكنها كانت قليلة بجوار أفلام المطرب والراقصة وتعد محاولات تظهر على استحياء ولا تستطيع الصمود أمام هذا المرض اللعين الذى ضرب السينما المصرية. ومن جديد تؤكد السينما المصرية أنها تمرض ولا تموت وسرعان ما تخلصت من سيطرة أفلام الراقصات والمطربين الشعبيين عليها، لتظهر نوعيات من الأفلام بمضمون جيد وميزانيات ضخمة ومنها ما خرج ليمثل مصر فى المهرجانات الدولية لتبدأ السينما من جديد فى استعادة عافيتها الفنية خاصة مع محاولات بعض النجوم التواجد بأعمال راقية وضخمة مثل أحمد حلمى وكريم عبدالعزيز ومحمد رمضان وأحمد السقا وهند صبرى ومنى زكى ومحاولات بعض الفنانين الاتجاه للإنتاج خاصة تجارب إلهام شاهين كما فى فيلم «يوم للستات»، وهكذا بدأت السينما تعبر من جديد عن مجتمعها وما يدور فيه. وهكذا تعانى السينما طوال تاريخها من فترات يسيطر فيها الدخلاء بمصالحهم الخاصة على الإنتاج ويغرقون السينما بأفلام تجارية رخيصة، لكن السينما المصرية سينما قوية وتاريخها دائمًا ما يكون سندًا لها فى العودة السريعة إلى الاتجاه الصحيح لأنها بالفعل سينما تمرض ولا تموت. •