لما توسعت حركة البناء بالقرب من منطقة القمر الصناعى غربى حى المعادى.. جذبت إليها عددًا كبيرًا من أبناء القرى المقيمين على أطراف مدينة حلوان.. كان أبوزيد واحدًا منهم.. بدأ مساعدا فى تفريغ عربات «المون» التى تحمل مواد البناء إلى مواقع التشييد، يزاحمه الكثيرون.. ثم ترقى فأصبح عامل يومية يحمل الطوب والزلط على كتفه ساعات النهار.. وينام إلى جوار مواد البناء المشونة بالقرب من البنيان الخرسانى ليلاً.. لما أعلن صاحب البناية أنه سيطرح وحداتها للبيع، وأتى بكرسيين وشمسية لزوم مقابلة الراغبين فى المعاينة والشراء.. أمره أن يبقى إلى جواره يلبى طلباته.. توسم فيه الحاج فودة أحقية أن يكون بواب العمارة بعد الانتهاء من تشطيبها وبدء تسكين وحداتها، لسببين لاحظهما فيه.. سرعة حركته وقدرته على تحمل المشاق ولعيونه المتفتحة على كل ما يدور حوله.. فاتفق معه على ذلك مقابل مبلغ شهرى أرضاه.. • التحية الواجبة كنا أول أسرة تنقل أثاثها إلى السكن الجديد.. عرفنى أبوزيد فور وصلنا أنا وزوجتى إلى مدخل العمارة حيث كان يكنسه.. سارع بمسح يديه فى «بنطلونه».. وحيانا التحية الواجبة.. أعلمته أن سيارة العفش آتية بعد ساعة تقريباً.. قال وهو يشير إلى رأسه.. توصل بالسلامة.. حاقف معهم لحد ما يخصلوا.. سبقنا إلى المدخل.. وفتح لنا باب المصعد.. قال مؤكدا وهو يغلقه وراءنا:.. «إذا سعادتك يا باشا عزت حاجة.. إزعق عليا». لبضعة أشهر قام أبوزيد بمسئولياته كبواب خير قيام.. لا يغفل عن البوابة.. يروى النباتات التى زرعت بالقرب منها.. يقوم بواجبات النظافة خير قيام.. يصحب محصلى الكهرباء والغاز وعمال التليفون وصبيان المحالات التجارية والصيدليات إلى حيث يتوجهون داخل العمارة لتوصيل الطلبات.. يستحضر عمال الصيانة من محلاتهم القريبة إذا ما فسد أمر يستدعى المبادرة بالإصلاح العاجل.. ثم هجر معظم هذه المسئوليات وتحول بالتدريج إلى ملبى لطلباتهم عن طريق هاتفه المحمول ذى الخطين.. يشترى لهم احتياجاتهم العاجلة.. يصحو مبكراً لغسيل سياراتهم.. يأتى بأبنائهم فور نزولهم من سيارات المدارس التى تنقلهم إلى مدخل العمارة، ويحمل عنهم حقائبهم إلى باب المصعد.. لذا لم نندهش حين اكتشفنا أنه أوكل إلى زوجته رعاية مدخل العمارة ومنحها حق سؤال القادمين الجدد عن وجهتهم.. وأناب عنها ولدهما محمود بعد عودته من المدرسة الإعدادية القريبة، عندما يفرد طوله إلى جوارها وراء باب حجرته لساعة أو أقل بعد أن تهدأ حركة الداخلين والخارجين بين العصر والمغرب.. أبو زيد بعد أشهر قليلة من استقرار السكان بالعمارة، أصبح لديه تصنيف لكل عائلة على حدة.. معياره الوحيد البقشيش الفورى.. ونحن وفق هذا المعيار درجات.. واستعداده للخدمة وتذليل العقبات يعتمد على هذا التصنيف. . فالعثور على كهربائى لإصلاح أى عطل مفاجئ.. أو سباك لاستبدال توصيلة المياه التالفة أسفل الحوض.. أو صنايعى لاستبدال لوح الزجاج الذى كسر أو كوالينجى لفتح باب الشقة أو السيارة الذى أغلق والمفاتيح داخله.. ألخ .. مهمة تُنجز فى وقت قياسى أو على المهل، حسب معادلة فطرية كونها عن كل ساكن.. • سيد الموقف أبوزيد لا يحابى إلا جيبه وحجم ما يضاف إلى دخله الشهرى.. يعنيه طبعا ما يجود به الكرام فى المناسبات فى شكل بقايا أطعمة.. وملابس.. وأحيانا مفروشات مستهلكة أو أدوات عفى عليها الزمن.. لكن يبقى الجنيه هو سيد الموقف فى نهاية المطاف.. بسرعة تعرف على تخصصات ومجال عمل كل السكان.. وبسرعة أيضا استفاد من كل أسرة.. بدأ بطبيب الأطفال.. ثم لجأ إلى زوجته لمباشرة حمل زوجته الثانى.. وقام بتعريف صاحب السوبر ماركت الذى وقع فى مشكلة مع التموين، على واحد من المحامين الذى يشغل شقتين.. إحداهما مكتب بالدور الأول.. ولما منحه مدير السينما تذكرتين لحضور إحدى الحفلات.. ارتدى أنظف ملابسه.. واستأجر ابن عم له لحراسة العمارة أثناء غيابه.. عند خروجى وأسرتى فى مساء أحد الأيام.. استأذن أبوزيد فى طلب خدمة.. سألته ما هى، رد وكله رجاء.. عايز حضرتك توصى على الواد محمود.. يشتغل فى النادى اللى سعادتك والدكتورة بتروحه مع الباشا الصغير.. يشتغل فى الإجازة.. ولو بنص أجرة.. رددت من فورى.. طب ليه ما تخلهوش يساعدك أحسن.. رد وهو يتلفت حوله.. مش عايزه يتعقد من شغلانة أبوه زى ابن البواب فى فيلم عمارة يعقوبيان.. يقول لهم أبويا بيشتغل حارس عقار.. يقولوا له.. يعنى بواب.. وعدته خيراً وانصرفت.. • حارس العقار يطلقون عليه فى عموم أوروبا مسمى Concierge وتعنى المُنتبه أو المُتيقظ لما يدور حوله أو غير الغافل عما يحيط به.. لابد لمن يتعاقد لشغل هذه الوظيفة أن يكون متحصلاً على قدر من التعليم حتى مستوى المرحلة الثانوية، ثم مواصلة الدراسة لمدة عامين يحصل بعدها على دبلوم يؤهله لأن يكون على دراية بالقانون الذى يحمى حقوق الملاك والسكان والمجتمع المدنى إلى جانب التدريب العملى على قواعد التعامل الإنسانى مع الآخرين سواء كانوا قاطنين أو زوارًا أو ممن يقومون بعمليات صيانة البناية بشكل دورى، بالإضافة إلى التعرف على حدود ونطاق تعاونه مع الشرطة.. • صديق الكل البناية لا يتولى مسئوليتها بواب واحد.. اثنان فى معظم الأحيان.. وثلاثة إذا كان عدد شققها كبيرًا.. وذلك وفقا للقواعد التى تنظم هذا العمل وتحدد مسئولياته.. بنايتنا يتولى أمر حراستها منذ عشر سنوات شخصان متعاونان.. ولم يصدر منهما على امتداد هذه السنوات أى مخالفة أو خروج عن حدود العقد الذى ينظم عملهما ويحدد علاقة السكان بهما.. كما لم تُقدم الشرطة ضدهما ما يتطلب إلغاء عقد أحدهما أو كليهما.. دائما ما يكون صاحبنا مهندما حليق الذقن خفيض الصوت.. ملابسه نظيفة.. ورباط عنقه معقوداً حسب الموضة فى كثير من الأحيان.. المتمرسون منهم فى المهنة يتأنقون كنوع من المشاركة فى احتفالات المناسبات الوطنية.. وبالذات أيام عيد الميلاد وبداية السنة الميلادية الجديدة التى غالبا ما تتيح الفرصة للسكان أن يعبروا عن مودتهم وتقديرهم لكل واحد من العاملين فى خدمة البناية الأمر الذى يمتد تلقائيا إلى عمال البريد وجامعى القمامة!!. فترة النهار تتميز بالحيوية.. الخارجون إلى أعمالهم.. الذاهبون إلى مدارسهم ومعاهدهم.. المنطلقون إلى تريضهم فوق الأرصفة.. وكذا المتسوقون.. من خلف مكتبه يحيى الجميع .. ويرد ابتساماتهم بمثلها، أو يكتفى بهزة من رأسه.. يبادلهم الأمنيات الطيبة بيوم جميل مشرق أو يدعو معهم أن تنتهى فترة الأمطار الممتدة أو درجات الحرارة شديدة الانخفاض فى أقرب وقت .. لا يفتح الباب لأحد من السكان ولا يحمل عن أى منهم حقيبة أو لفافة.. ينتهز أى عشر دقائق مواتية ليتناول وجبة غذائه التى غالباً ما يحضرها معه من منزله.. فى كثير من البنايات يُمنع عليه تدخين السجائر فى مكان عمله.. لذلك ينتهز بعضهم فرصة قدوم ساعى البريد الذى فى الغالب ما تتكون معه صداقة بحكم مروره عليه مرة أو مرتين فى اليوم، كى يُجلسه مكانه بينما يدلف هو إلى الحديقة الخلفية للمبنى أو جراج السيارات لكى يدخن سيجارته على عجل.. • اليقظة أما الفترة المسائية فهى التى تحتاج تركيزًا أكثر.. الانتباه كلية ما يدور فى الخارج على وجه التحديد.. تحديد مصدر أى خطر إذا أحس به.. إبلاغ قسم الشرطة فورا عن أى تخوفات مصدرها الغاز أو الكهرباء وفق ما تدرب عليه.. المرور الدورى على البناية من الخارج مرتين على الأقل بعد منتصف الليل.. ويتطلب ذلك منه أن يتمتع بيقظة متوثبة لأن الباب الرئيسى للمبنى يغلق من الداخل فى ساعة محددة.. ولا يُسمح لأى شخص بالدخول إلا بعد أن يتصل بصاحبنا عبر الميكروفون المثبت خارجها ويشرح ماذا يريد، طالما أنه من غير السكان.. بمناسبة رأس السنة الميلادية التى هلت علينا منذ بضعة أيام.. أقمنا لواحد من البوابين حفلا بمناسبة انتهاء فترة تعاقده مع مجلس إدارتها لبلوغه الخامسة والستين.. وللتعرف على زميله الذى سيحل محله.. أخطرنا مجلس الإدارة بحجم مساهمة كل منا المادية فى هذه المناسبة.. ونوع طبق الطعام الذى ستتبرع به كل أسرة، منعا للتكرار.. ونوع الهدية التى ستقدم له باسمنا جميعاً.. تقرر أن تبدأ الحفلة فى يوم السبت المتفق عليه قبل نهاية فترة خدمة المحتفى به النهارية بنحو نصف ساعة.. بعد أن يحضر مسئول الفترة المسائية مصحوبا بالبواب الجديد.. قامت بعض السيدات بتعليق نوع بسيط من الديكورات فى مدخل البناية.. وقام الأزواج بترتيب الأطباق وأدوات المائدة البلاستيكية.. وإعداد غلايات المياه اللازمة لتحضير الشاى والقهوة.. وتشاركنا جميعا فى رص أوانى الأطعمة.. وصوانى الأكل الجاهز.. ولفافات الخبز.. وكذا زجاجات المشروبات.. والمناديل الورقية.. بدأ الحفل حوالى السابعة والنصف.. احتفينا بالرجل وتمنينا له أن يقضى وقتا ممتعاً بعد التقاعد.. وتعرفنا على من سيحل محله.. تشكلنا فى مجموعات نتبادل الأخبار والنكات.. ونعلق على حالة الطقس المكفهرة منذ ثلاثة أيام.. قبل الثامنة والنصف.. حمل رئيس مجلس إدارة البناية الهدية التى اخترناها للمحتفى به.. وقدمها مع كارت يحمل توقيعنا جميعا تحت جملة تقول: «نتمنى لك وقتاً طيباً بعد أن تستريح من عناء خدمتنا» وسط تصفيقنا الرصين.. احتضن الرجل الكارت والهدية ووقف فى وسطنا.. وارتجل كلمة.. شكرنا .. وتمنى أن يرانا كلما سنحت له الظروف بذلك.. وطلب منا أن نسامحه أن كان قصر يوما فى أداء واجباته حيالنا.. لما انتهى التصفيق.. ذهب إلى زميله القديم.. احتضنه وقبله.. وشد على يد زميله الجديد ورجا أن يكمل مشواره فى خدمتنا.. التفت إلينا وهو يحمل حقيبته الصغيرة ويحتضن الهدية.. ورفع يده محييا للمرة الأخيرة.. واجتاز الباب.. بعد برهة انصرف كل منا لحال سبيله.. •