الأمومة شعور من الصعب وصفه، يهبه الله للأم منذ اللحظة الأولى التى تحمل فيها جنينها.. ولكن كثيرا ما يتحول هذا الشعور لوحش جامح يجتاح كل من يقف أمامه إذا شعرت بأن هناك خطرًا يهدد حياة أبنائها.. وخصوصا إذا كان هذا الخطر «هو فراق أعز ما تملك» أمام أعينها، مسلوبة الإرادة، مكبلة الأيدى.. تراه ينهار أمامها يفارقها ويفارق حياتها للأبد.. لتنقلب حياتها بعدها رأسًا على عقب شاردة الذهن، زاهدة فى الحياة، تعيش المتبقى من عمرها على ذكراه.. لا تجد علاجًا يداوى جرحها سوى رؤيته مرة أخرى يلهو ويلعب أمامها. اندهشت كثيرًا عندما رأيت هذا الشعور لن يختلف كثيرا عند الحيوانات.. وخصوصا عندما سمعت خبر وفاة «بنجو» إنسان الغاب، وما فعلته والدته بعد وفاته من انغلاقها على نفسها وانهيارها وحزنها الشديد على فلذة كبدها.. فقد انتقل «بنجو» للعيش مع والدته «تيتى» فى نفس المسكن بعد وفاة زوجته «فطوطة» فى 2011.. ليكون هو ونيس وحدتها.. ولكن بسبب الإهمال الذى نعانى منه فى كل شىء وعدم الاهتمام بالحيوانات ومراعاة احتياجاتهم وتقديم الرعاية الصحية الجيدة لهم.. توفى «بنجو» عن عمر يناهز ال10 سنوات، وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة.. الخبر الذى نزل كالصاعقة على والدته وجعلها تمتنع عن الطعام وتمتنع أيضا عن مداعبة الزوار داخل الحديقة. ذهبنا إليها لنخفف عنها ونقدم واجب العزاء فى ابنها.. وهناك وجدتها تجلس داخل مسكنها واضعة يدها على خديها.. مبعثرة الطعام حولها رافضة أن تضعه فى فمها.. سارحة بنظرها فى عالم آخر.. عالم ترى فيه ابنها.. والزوار يعتقدون أنها تراهم، يلوحون لها وينادون عليها وهى ساكنة مكانها لا تطرف لها عين.. فعيناها وحدها كفيلة بأن تحكى ما بداخلها من وجع وألم.. تتنهد كأنها تتمنى أن يكون هذا آخر نفس يخرج منها لتذهب إلى ابنها. وبخطوات هادئة اقتربت منها محاولة أن أقرأ ما بين بحور الدموع التى بعينيها، لكنها عندما شعرت بوجودى جانبها التفتت لتعطينى ظهرها.. كأنها لا تريد أن يقطع أحد حبل الذكريات التى تشاهدها.. ولكن حارسها ظل «ينغزها» بالعصى التى فى يده من أجل أن تأكل الموزة أمام الناس لمداعبتهم.. لكنها أخذت الموزة بمنتهى الغضب وألقتها على الأرض وظلت تصرخ بشدة فى وجه الناس من خلال حديد مسكنها، لدرجة أنهم هرعوا من صوتها.. وهدأت بعد أن انفضوا من حولها.. وعادت إلى مكانها، وضربات قلبها تكاد تهد الجدران حولها، وأصوات أنفاسها تشبه أصوات الرياح الغاضبة ثم جلست وسرحت بخيالها مرة أخرى. ذهبت إليها لأجد نفسى أقول لها: «اهدئى، لمَ كل هذا الغضب»؟ ظلت ساكنة صامتة لا تتفوه بأى كلمة.. كأنها لا ترانى بالمرة. ولكن صمتها أثار فضولى لأسألها: «لمَ لا تريدين الحديث معى»؟ بدأت تنتبه لوجودى حولها وتمتمت بكلمات متقطعة غير واضحة بالمرة. اقتربت منها أكثر لأفهم ما تقوله فوجدتها تقول لى: «ماذا تريدين»؟! أجبتها بتحفظ قائلة: «أريدك أن تهدئى، كى أستطيع الحديث معك». اقتربت منى ممسكة بحديد مسكنها ثم نظرت لى وقالت: «أهدأ!»، ألم تعلمى ماذا حدث معى؟.. أجبتها قائلة: «أعلم جيدا، ولكن الحزن والغضب لن يرجع ابنك». قاطعتنى قائلة: «صحيح، لأنه للأسف أنتم السبب فى ذلك»!.. وقفت لثوانٍ ثم سألتها قائلة: «ماذا تقصدين بأنتم»؟.. أجابت مسرعة: «أقصد أنتم البشر، البنى آدمين!!.. لم يكن فى قلوبكم أى نوع من أنواع الرحمة والرفق بنا وبحالنا.. تتعاملون معنا بمنتهى العنف والقسوة والغوغائية.. تتلذذون فى إيذائنا.. رغم أننا دائما نكنّ لكم كل الترحيب ونحاول أن نرسم البسمة والفرحة على وجوهكم». قاطعتها قائلة: «ولكن هؤلاء الناس ليسوا السبب فى موت ابنك»!!.. أجابت تيتى قائلة: «صحيح ولكنهم لهم جزء فى هذا». سألتها قائلة: «إذن أتعلمين من هم السبب فى موته»؟!.. أجابت: «طبعا، هؤلاء الناس الإداريون القائمون علينا ويقال إنهم المهتمون بشئوننا!.. الذين يهدرون حقنا.. فقد توفى ابنى بسبب إهمالهم فهم يتركوننا لساعات طويل فى الشمس من أجل إسعاد الزوار.. وهذا ليس عدلا بالمرة!.. فمن المفترض أن يوفروا لنا فى هذا الطقس السيئ مراوح برشاشات مياه، بالإضافة إلى أننا لم نتلقّ الرعاية الصحية الجيدة، فالكثير من الحيوانات هنا تمرض وتظل بمرضها إلى أن تموت!!».. بالإضافة إلى المعاملة السيئة سواء من حراس الحديقة أو من الزوار!».. قاطعتها قائلة: «ولمَ لا تعترضون على هذا الوضع»؟.. أجابتنى بسخرية قائلة: «عندما تعترضون أنتم الأول كبشر على وضعكم، نعترض نحن الحيوانات على وضعنا!.. فنحن مجتمع مصغر من المجتمع الكبير الذى تعيشون فيه.. مجتمع ملىء بالفساد والإهمال والمصالح الشخصية!.. قاطعتها بسؤالى: «مادمتِ تعلمين ذلك، لمَ أنت حزينة»؟.. أجابتنى قائلة: حزينة على وضع الحديقة المزرى.. فقد فقدت الحديقة العديد من الحيوانات النادرة التى من الصعب تعويضها.. حزينة على ابنى الذى مات بسبب الإهمال.. وحزينة على صوتنا الذى لم يسمعه أحد!.. فعلى الرغم من مجهودات نشطاء حقوق الحيوان، فإن السلطة داخل الحديقة أقوى بكثير منهم! وبعد انتهاء الحوار معها، قمت بتعزيتها لكنها رفضت قائلة: «لن أقبل عزاء ابنى إلا بعد أن آخذ حقه»!.. تركتها وبداخلها مشاعر الأم المحروقة على فقدان ابنها.. فمشاعر الأم لا تتجزأ سواء كانت إنسانًا أو حيوانًا. •