«ماما أنا مش هروح مارينا السنة دى.. بقت بيئة أوى.. أنا هروح مراسى».. عندما كان هذا الحديث قائما بين فتاة فى العشرين ووالدتها تحاول جاهدة إقناعها بأن يسافروا للساحل لقضاء الإجازة.. كانت هناك عيون تراقبهما بشغف.. تسمع فى استغراب.. خاصة عندما انتهى الحديث بالفتاة تقول.. «أووف.. أنا زهقت من مارينا بتاعة الفقرا دى!!» ارتسمت ابتسامة على وجه الفتاة.. ربما ظنت أن هذه الفتاة تمزح.. أو ربما ابتسمت لأنها اكتشفت أن الفتاة لا تعرف ما هو الفقر؟ هذه الفتاة أحضرتها صاحبة البيت من الصعيد لتسافر معها تساعدها فى الساحل وتقوم بخدمتهم.. وافقت الفتاة على الفور.. لأنها علمت أنهم سيذهبون للبحر.. فلطالما سمعت عنه.. وشاهدت صوره ورأته فى الأفلام والمسلسلات.. وكانت تحلم بيوم.. تلمس أمواجه أطراف أصابعها.. تتخيل أن تمسك بودع البحر وتهمس لها بما تتمنى وتلقيه فى أعماقه.. هذا كان طموحها.. هى لا تعرف بأن هناك بحراً للفقراء.. وآخر للأغنياء!! فدائما كانت تطلب من والدها أن يسافروا للبحر فيرد: «إحنا مش أد البحر ومصاريفه».. هذه الفتاة اسمها «نوارة». • حلم عمرى.. نوارة فتاة من المنيا سمراء البشرة عسلية العينين والشعر.. نحيفة.. ذات الستة عشر عاما.. جاءت من بلدها لتعمل عند سيدة لتسافر معهم للساحل.. وهذا أكثر شيء جعلها توافق.. تقول: «لما عرفت إنهم هيسافروا للبحر .. وافقت.. أصل أنا مابحبش أسيب أمى أبدا.. لكن.. نفسى أشوف البحر على الحقيقة.. أصل لما كنت بشوفه فى التليفزيون.. أو أشوف حد بيعوم.. كنت أقرب من الشاشة وألمسها».. تبتسم وكأنها شعرت بسذاجتها ثم تكمل: «طبعا ما بلمسوش.. بس كان بيبقى نفسى أحس بالميه.. أنا كنت هبقى مبسوطة لو كنت سافرت مع أمى وإخواتى.. لكن ما باليد حيلة.. أبويا مايقدرش يسفرنا.. بيقول البحر للى يقدر على تمنه.. وإحنا مانقدرش.. بس أنا هاخد لأمى شوية ماية بحر وأنا راجعة.. وهخليها تحطهم على إيدها». • بحر بجد.. هند فتحى - 24 سنة متزوجة ولديها 4 أولاد ولدت هنا فى القاهرة.. يعمل والدها بوابا لأحد العقارات بعد هجرته من بلده بنى سويف.. كانت دائما ما ترى أصحاب الشقق بمجرد أن تنتهى الدراسة.. يحملون أولادهم وحقائبهم ويركبون سياراتهم ويغيبون بالأيام والأسابيع.. وعندما يعودون يكون لون بشرتهم قد تغير وتسأل الأولاد: «كنتم فين؟» فيقولون أسماء كثيرة لا تفهمها ولا تعرفها ولكن اكتشفت فى النهاية أنه مصيف وأن هذا المصيف باختلاف أسمائه يتفق فقط فى شيء واحد.. أنهم جميعا ينزلون «البحر» أو البيسين وكما تقول هى «البيسيم» وفهمت بذكائها أن هذا الأخير أيضا نوع من أنواع البحر.. ينزلون به و«يبلبطون.. كما كان يفعل البعض فى النيل فى بلدهم كما يروى لها أبوها.. لكنها حتى لم تر النيل!! لأنه بعيد ووالدها لا يملك الرفاهية لأخذهم لكورنيش النيل فى الجيزة.. وعندما كبرت تمنت أن يأخذها خطيبها الذى تقدم لها فى الثالثة عشرة من عمرها.. إلا أنه كان يستبعد المسافة.. أنجبت أربعة أطفال الآن.. وكل ما تريده فى حياتها أن يشاهد أولادها البحر، بحر بجد مش يشوفوه فى التليفزيون تقول: «نفسى ماحرمهمش من حاجة.. نفسى حتى لو أدخلهم شط مجانى.. ثم تصمت لحظات وتنظر لى متسائلة: هو فى شط مجانى؟». • حب المصيف.. على محروس الشهير ب«سند» 30 سنة متزوج ولديه 6 أطفال أربع فتيات وولدان.. سموه سند لأنه ولد وحيد لأبيه ويعتبره السند له.. ولأنه السند كان دائما مع والده منذ كان فى الثامنة من عمره.. يذهب معه للعمل وهو يعمل نجارا فى ورشة كبيرة.. وكان والده يأخذ يوميته ويقول له «هحوشهالك» وظل يحلم بأن المبلغ يكبر يوماً بعد يوم.. ويكبر معه حلمه.. بأن هذا المال سيكون سببا فى قضائه وعائلته صيفا مختلفا يسافرون فيه لرأس البر.. وهذا لأن صاحب الورشة كان دائما إذا اشتد الصيف والحر.. يقول لوالده أمامه: أنا هاخد الولاد واسافر رأس البر.. عندما كان يسأل والده ما هى رأس البر.. كان يقول له والله يا ابنى مانا عارف!!.. فوالده أصوله من الصعيد وجاء كمثله كثيرين ليعمل فى القاهرة.. وفى يوم سأل على صاحب الورشة.. فأخبره أن رأس البر مصيف به بحر ونيل فى نفس الوقت وكان يصف له العشش والشواطئ والجيلاتى على البلاج.. ويجلس الفتى ويتخيل.. وعندما أصبح عمره 14 سنة.. وقف أمام والده ووالدته يخبرهما أنه يريد يوميته التى كان والده يوفرها له ليسافروا بها جميعا لرأس البر .. وهنا كانت المفاجأة عندما انفجرا كلاهما فى الضحك.. وظل هو ينظر لهما معتقدا أنهما سعيدان بما سيقدمه لهما.. إلا أنهما قالا له «يومية إيه يا ابنى؟.. أومال انت فاكر احنا بناكل ونشرب منين.. عايز تصيف يا حبيب أمك؟» واستمرا فى الضحك.. كبر وأصبح ذهابه للمصيف تحدياً وخصوصا بعد أن أنجب أطفالا.. وبالفعل كل شهر يوفر مبلغا ليذهب وهو وزوجته وأولاده للمصيف إلا أنه كلما ينوى السفر يجد أن الأسعار ارتفعت وينتظر حتى يجمع مبلغا أكبر.. لكنه لم يفقد الأمل.•