كان محمود درويش يقول: أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمى. وأنا.. مازلت - رغم عربات الزمن الثقيلة، التى مرت على أجسادنا وأرواحنا- أحن إلى خبز صباح الخير، حتى لو كان بلحم الحمير، الذى كنا نأكله أنا ورشاد كامل- بناء على نصيحته منه لله - دون أن ندري، حتى فوجئنا بالقبض على صاحب المطعم، وأظن- وبعض الظن ليس إثما- أننى ورشاد أكلنا حماراً ونصف الحمار، أو حمارين إلا ربعاً. أحن إلى قهوة صباح الخير، حتى لو كانت قهوة محمد أبوحسين رحمه الله، والتى لها طعم تراب المقابر، وكان يحملها مختالا، كأنه يحمل قهوة ملكية، بينما يجلس عم حسين أشبه بآلهة الأساطير القديمة، يردد وهو يدخن سيجارته: «إذا أدبرت.. بال الحمار على الأسد». مازلت بعد كل هذا العمر، أحن إلى تلك الغرف، التى كنت أظن أنها بلا أبواب ، فالاحلام لا تحتاج أجنحة لتطير، والبهجة تكره الأماكن المغلقة.. غرف تحب تلك الوجوه التى لا تتوقف عن اصطياد طائر الدهشة، ثم تطلقه فى فضاء يكتب أبجديته لايزال.. ومازال الفنان ناجى يجلس على حافة النافذة، يعزف على الناي، وعندما يدخل مصطفى محمود بالشورت، يتوقف قليلا، ويهتف بفرح: ازيك يا درش. ثم يعاود عزفه دون أن يستقبل الجملة الخافتة المبتسمة هاتقع يا ناجى وعفريت هايطلّع عنينا. مازلت أحن إلى غرفة لويس جريس، الذى منحنا قلبه وأيامه، وعلمنا الحياة، كنا نطلق عليه شيخ حارة مصر، لكثرة الحكايات والوقائع التى يعرفها، وكان آخر الليل.. يأخذنا فى سيارته، ليوصلنا إلى منازلنا.. أحن إلى غرفة رءوف توفيق، الذى أدخلنى هذا العالم الخرافي، وحواراته حول السينما والفن. مازلت أحن إلى تلك الطرقة التى تأخذ شكل مربع ناقص ضلع، حيث تركض الضحكات كأفراس برية، وتنبت فيها شجرة الأحلام، التى تمتد من أول العمر، حتى آخر الحلم، تزهر فوق جدرانها أزهار لا تعرف المواسم والفصول، مازلت أشم رائحة العابرين، من أيام تراوغهم، إلى أيام يحلون ضفائرها.. مازلت.. أرى عصافير خضراء تغنى. أسمع الآن ضحكة ناهد فريد المجلجلة، رائدة الحركة النسائية والرجالية، تلك الضحكة التى لا يقطعها، غير صراخها على عبدالعزيز حامل أختام الدنيا، وصوت إلهة الشر الصغيرة، رغم براءة ملامحها، ناهد الشافعى، وهى تشاكس الدكتورة نجلاء بدير، عندما تطل امرأة غريبة تكاد تتعثر من خطواتها، وخلفها طفل صغير لا يمتلك غير دهشته وخوفه وغلبه.. «الحقى العيانين بتوعك يا نجلاء». مازلت أحن إلى خناقات سلوى الخطيب السياسية، وهى تنتفض وتشب فوق المكاتب، ولا عبدالناصر فى زمانه، ومناكفات كريمة كمال وماجدة الجندى من ناحية، ودرية الملطاوى من ناحية أخرى. أحن إلى حوارات وترانيم الأبجدية، مع صبرى موسى وعبد الله الطوخى وعلاء الديب وزينب صادق، أحن حتى إلى قفشاتهم.. عندما تدخل الغرفة فتاة صغيرة جميلة، يضحك صبرى موسي، ويقول لها: سلمى على جدك عبدالله.. فيردها له عبدالله فى أقرب فرصة. مازلت أحن إلى خبز صباح الخير.. وقهوة صباح الخير.. وأفتقد فوزى الهواري، وكبير آلهة الشر رءوف عياد، ورمسيس وصوته يأتى من أول شارع قصر العيني.. إزيكم يا كومبارس صباح الخير، ومحسن جابر الذى يرسم النكتة ويضحك عليها، وإبراهيم عبدالملاك. والآن.. وأنا أعبر تلك الطرقة ليلا.. أرى تلك الغرف المغلقة المعتمة.. وبقايا شجرة الأحلام، أتساءل: أين ذهبت الضحكات والأحلام؟! هل هاجرت بعيدًا، أم أنها تنمو مرة أخرى خلف تلك العتمة؟ لا شيء غير غرفة جمال بخيت، وهو يجلس محملقًا فى كومة الماكيتات، التى تسقط ما بين الوهم والحقيقة، وأعتقد أنه سيطلع من هدومه قريبًا، فبين إله الشعر وصاحبة الجلالة، غرام ضائع، ومحكمة زنانيري، وقضايا ونفقة، فى الغرفة المجاورة، تجلس ليلى مستكينة، ربما تدعو على جمال بخيت الذى يعمل إلى هذا الوقت المتأخر، وربما فكرت فى يوم من الأيام أن تخرم له كاوتش العربية، حتى تستريح من طابور الذنب اليومي. وعندما أقترب من تلك الغرفة- التى ربما تعيد رحلة الأحلام- أبتسم، عفاريت صباح الخير، أو ما تبقى منهم بعد أن خطفت الحداية البنت الجميلة لميس إلى السعودية، أرى الشعنونة يارا التى ينطبق عليها موال أدهم الشرقاوي.. عربى فرنساوى بكل لسان كلمهم، وأمانى زيان، التى تعاملنا- رغم صغر سنها- كأنها أمنا، التى تولع صوابعها العشرة شمعاً لتضيء ظلمة أيامنا، والاختراع العجيب المدهش البنت زئردة، أو ياسمين خلف، والفنانة الشابة هبة المعداوى، مازلت أسمع ضحكاتهن.. وصراخهن، مثلما كنا نفعل زمان، رغم اعتراض البعض. آخر الليل.. أغلق غرفتي، التى كانت غرفة حجازى العظيم، ثم نهاد جاد وأمضى إلى غرفة أحد الساهرين، تلك الغرفة التى شهدت سهراتنا مع حسن فؤاد ولويس جريس وصلاح المنهراوي، ألقى تحية المساء على سيف ورامى وعبدالله ومحمود، ويهبط الأسانسير كأننى أغادر روحى، وصوت فؤاد حداد يتردد شجيًا: بكيت.. مسحت دموعي بامسح دموعى.. بكيت لكن شجرة الأحلام، ستظل تورف دائمًا فى تلك الطرقة الغريبة.. حتى.. رغم العتمة. •