فى حضرة الفنانة نادية لطفى تمر أمامك عوالم مختلفة وذكريات ممتدة البراح، والمتعة الحقيقية ليست فى أن تستمع إلى حديثها المميز الاستثنائى فحسب، بل أن تراقب طريقة غزلها للفكرة وهى تقولها بمنتهى «الموود»!، أى أن تعبر عما تريد طرحه من فكرة أو شعور أو حتى وجهة نظر «بمزاج» متسق مع الكلمة.. أليست متعة؟! لقد كنا محظوظين بأن ننال قسطاً وفيراً من تلك المتعة فى جلستنا معها التى لم نطلق عليها حواراً بل «فتح قلوب». نالت مجلة «صباح الخير» مساحة من استدعاء الذكريات فى عقل ووجدان نادية لطفى، وقد لخصت العلاقة بينها وبين «الصبوحة» قائلة: أنا طول عمرى كنت باعتبر نفسى واحدة من كتيبة مجلة «صباح الخير». وبما أننى «باشغل المافيولا فى دماغي» دائماً، استدعيت ذكريات كثيرة وأنا فى انتظار قدومكم، قلت فى نفسى: معقولة.. راحت فين صباح الخير؟ كيف لا أتابعها ولا أقرؤها كل هذه السنوات؟ أتذكر جيداً الغلاف الذى رسمه لى الفنان جمال كامل رحمه الله، كانت صورة الغلاف معبرة حيث إنه نقل روح الشخصية فى خطوطه، وهناك عباقرة أمثال جورج البهجورى وإيهاب شاكر وحجازى وبهجت عثمان والليثى وأبو العينين، «صباح الخير» كانت دائماً هى منارة الصحافة المصرية، تجمع بين الفن والأدب والصحافة والتنوير، أقلام لكبار من رموز الأدب والصحافة كإحسان عبد القدوس ولويس جريس ورءوف توفيق.. وتتذكر نادية لطفى عندما كانت تطبع دليل الفنانين قائلة: لم أجد مكاناً للطباعة فتوجهت إلى «روزاليوسف» وقابلت صديقى عدلى فهيم الذى أعتبره راهباً فى محراب الصحافة وقال لى: ح تطبعى هنا فى روزاليوسف، وبالفعل طبعت وكمان تعلمت الطباعة فى روزاليوسف. وقد أرتنا نادية لطفى اللوحة الرائعة التى أهداها لها الفنان إيهاب شاكر فى عيد ميلادها- أحد أعز أصدقائها المقربين- وهى لسيدة كأنها «تصرخ» أو بمعنى أدق «تندب»!!. بمنتهى الألمحية تقول: كلما نظرت إلى هذه اللوحة شعرت كأنها تعبر عن مصر وقت حكم الإخوان. ومن الحديث عن «صباح الخير» والصحافة.. تفاجئنا نادية لطفى بعملها صحفية لمدة سبعة أعوام وتحكى: عرض علىَّ بديع سربيه أن أكتب باب حل المشكلات للقراء فى مجلة الموعد على مساحة أربع صفحات، وكانت الفكرة أن أكتب الرد بخط يدى لإعطاء مصداقية أننى التى أرد بنفسى، وبالفعل كنت مستمتعة ومستغرقة فيه، وكان هناك بعض القراء الذين لا يريدون نشر مشكلاتهم لكنهم يريدون الحل والمساعدة، وبالفعل كنت أفعل ما استطيع لمساعدتهم بشكل عملى وليس من خلال الرأى فحسب. «مساعدة الناس»- لمن يعرف القليل عن نادية لطفي- هى أحد أهم ملامح شخصيتها وتركيبتها الإنسانية، معروفة بين أصدقائها بأنها «صاحبة صحابها» تجدها فى الكرب قبل الفرح معهم، الأساس فى شخصية هذه السيدة المصرية الأصيلة أنها لم ترض يوماً أن تعيش الحياة فى وطنها «من فوق الوش» أى بشكل سطحى، وهذا ليس جديداً عليها، فهى منذ بداياتها، كانت ترتاد كل مكان فى مصر، قرى، حوارى، عشوائيات، تعشق أن تكون فى تماس حقيقى مع البشر «لحم ودم»، لا أن تقرأ عنهم فى قصة أو رواية أو حتى مقال صحفى، فهى كانت دوماً قريبة إلى الناس. ما حكته لنا كان معبراً بشدة ودليلاً قاطعاً عن علاقتها الوثيقة بهذا المجتمع- وإن كانت مواقف نادية لطفى الاجتماعية والوطنية هى تاريخ لا يحتاج إلى دليل لأنه موثق بالفعل! كانت تحكى لنا عن فتاة العتبة، تلك الفتاة التى تم التحرش بها وهتك عرضها فى أتوبيس نقل عام بالعتبة وسط الناس عام 1992، وكانت هذه الواقعة صدمة اجتماعية مخزية. تقول الفنانة نادية لطفى: عندما سمعت بواقعة فتاة العتبة، غلى الدم فى عروقى، وأول شيء وجع مشاعرى وأفكارى هو «الفتاة نفسها»، وقلت فى نفسى: من المؤكد أنها تحتاج إلى دعم نفسى واجتماعى قبل مناقشة خطورة ومأساة القضية نفسها. فكرت فى الأمر قليلاً، وكان علىَّ أن أدير تحركاتى بإدارة وحكمة وتخطيط.. فأنا أريد أن أذهب إليها فى بيتها- الذى من المؤكد أنه فى مكان شعبى بسيط، ومن المؤكد أيضاً أنها تعانى ضغوطاً اجتماعية ما، ولأن القضية شائكة، والناس تحكم بطرق قاسية فى مثل تلك الأمور، كان لزاماً علىَّ الاستعداد، كلمت السيدة الرائعة مدام أمينة رزق، وحكيت لها الواقعة وطلبت منها أن نذهب معاً للفتاة، فرحبت بحماس، وفى خلال دقائق كانت جاهزة، فلا أحد فى المجتمع المصرى ولا العربى يختلف على أمينة رزق كراهبة الفن، فهى حائط دفاع فى أية قضية أخلاقية، وذهبنا إلى الفتاة حيث تسكن فى مكان شعبى بسيط، وفوجئنا بأنها هى وأمها حتى لا تستطيعان فتح الشباك وأن الفتاة لا تستطيع أن تخرج من باب بيتها رغم أنها الضحية والمفترى عليها، وكانت زيارتنا لها بمثابة سند نفسى لها أمام أهل منطقتها. وبعدها أقمت ندوة فى نقابة الصحفيين وحضر فيها الكثيرون من المثقفين وأصحاب الرأى والكلمة لمناقشة هذه القضية بما تحمله من جرائم عنف وقهر وكبت وبلطجة.. كانت ندوة كبيرة أدارها طارق الشناوى وحضرت السيدة أمينة رزق فيها، وكذلك جورج سيدهم الذى كان رفيقاً معى فى كل مشاركة اجتماعية أو سياسية داخل أو حتى خارج مصر، وحضر الفنان محمود ياسين والعظيمة المناضلة فتحية العسال وكذلك وحيد حامد، وتناولنا خلالها موضوعات اجتماعية حرجة وخطيرة ومهمة للغاية، وتسترسل وهى تضحك وتقول للشاعر جمال بخيت: أنت أكيد فاكر لأنك أنت نفسك كنت حاضراً، أتذكر جيداً حماسك ودفاعك عن القضية بمنتهى الحسم، ومن وقتها وقد لفت انتباهى جيداً وأدركت أنك صاحب موقف!! كم هى عظيمة تلك الإنسانة المهمومة بالبنى آدمين، التى اختارت أن تكون يدها فى المجتمع، فعلى حد قولها: هو أنا عايشة فى البلد دى ضيفة ولا إيه؟!!، لازم أكون فاهمة وعارفة شبر شبر فى بلدى، من أقسام بوليس لمستشفيات، لسجون، لقصور، لشوارع، لبنى آدمين من مختلف الطبقات، فأنا لا أتصور أن أعيش فى بلد لا أكتشفه، فأنا عندما أسافر لأى بلد لا أفضل الزيارات الرسمية المرفهة، بل أفضل أن أتواجد فى Old town أى فى المدينة القديمة للبلد الذى أزوره، أشم رائحة المكان، وأستشعر حضارته وتاريخه، أو حتى عادات البشر هناك.. فما بالك بوطنى، كيف أعيش فيه كأنى مفعول به؟. وتواصل قائلة: إن كان تساؤلكم لماذا أكون طرفاً فى قضايا اجتماعية.. لأننى باكره الظلم.. فالبنى آدم بالنسبة لى له قدسيته واحترام كرامته فريضة مهما كان الاختلاف معه، لا أحتمل فكرة «الظلم».. • ولكن مع استمرار الظلم والمظالم اليومية.. ألا تشعرين أحياناً بالإحباط أو المجهود النفسى المضنى الذى تتطلبه مقاومة تكرار هذا الظلم اليومى على البنى آدمين؟ «لا لا لا».. الكرامة فوق أى اعتبار، الظلم ممكن يهد جسمى، والمقاومة ممكن تتعبنى بدنياً، والظلم ممكن يعور أجسام لكن المهم إن الروح ما تتعورش. وأنا كل ما أتمناه فى حياتى أن أحافظ على روحى، وألا يطولها اليأس أو الاستسلام حتى ولو كنت «مكسحة».. فالمهم أن أحافظ على الثوابت والقيم فى حياتى التى لا تقبل «الفصال»، وإن سقطت تلك الثوابت.. اتعورت الروح! وكعادتها المبهرة تحلل وجهة نظرها بشيء كبير من الحكمة فتقول: أتصور أن من يتغير تحت أى قهر تعرض له بشخصه أو بسبب الوضع العام، يُعذَب مرتين: مرة لأنه تعذب فى الواقع من الظلم، ومرة لأنه تنازل.. فهناك أشياء إن فقدها الإنسان لا يمكن تعويضها مثل الأمانة والضمير والمبدأ. أما عن مجهود المقاومة.. فإنه يتولد مرة بعد أخرى، ففى كل موقف أدخل فيه بيقينى أننى أدافع عن مبدأ ما، أخرج «منشكحة» وقوية الروح، ومن هنا تكبر القدرة وتزداد، المقاومة لا تقل لا بسبب الصحة ولا السن.. المهم اليقين بالمبدأ الذى نقاوم من أجله. تواصل: هناك أشياء أدرك تماماً أنها خارج إمكاناتى وقدراتى، وأننى لن أغير فى تلك المعركة أو الحدث شيئاً، ولكننى على اقتناع بأن وجودى أو وجود أى شخص فى ساحة المعركة.. يدعم فكرة الحق، حتى ولو الفكرة نفسها مقهورة.. تضحك: «سأقول لكما سراً.. بصراحة أنا باحب ألعب على الحصان الخسران».. لو خسر، فمعروف مسبقاً أنه خاسر، ولو ربح.. يصبح مميزاً ولا ينسى وتزداد قيمته ويظل استثنائياً!! الحديث مع الرائعة نادية لطفى يقودك إلى منطقة المفكرين أو الملهمين أو الحكماء أحياناً. والأروع أنك لا تتوقع الجملة التى ستنطق بها بعد لحظات. فمن الحديث عن النضال.. للحديث عن القمر.. بلى.. القمر الذى كان مكتملاً ساطعاً ورائعاً فى ليلة رائعة عندما كنا فى حضرتها، وفى جو بديع عندما قطع التيار الكهربائى وكنا نجلس فى شرفتها البديعة وكان القمر يطل علينا وقتها.. وإذ بها فجأة تنظر للقمر وتقبله وترسل له قبلاتها.. وتقول بإحساس صوفى رقيق: «ده حبيبى وونيسى.. حتى وإن كنت لا أعرف الأيام ولا التواريخ، ولكن دائماً يشاء القدر أن يرينى الله القمر فى يوم اكتماله وتمامه لأسلم عليه وأقبله وأقرأ الفاتحة.. وتقول لنا: ياللا بوسوه أنتو كمان واقروا الفاتحة.. وفعلنا ذلك بحب شديد». •