كانت تتعمد أن تلمس أصابعه الخشنة وهى تعطيه اصطباحة كل يوم ربما لا تجيد السؤال عن أحواله اليومية أو لا تكفى الثوانى التى تراه فيها للكلام فى أى شىء فتطمئن عليه بلمس أطراف أنامله تعرف حالته ومزاجه من لمسه، أحيانا يكون مريضا يأخذ منها ولا يتكلم فتشعر بأنامله متراخية هزيلة لا تقوى على القبض على قطع العملة وأحيانا تشعر بها متعافية قادرة على مقاومة السنوات القليلة القادمة.. وهى لا تعتمد على القطع المعدنية التى تصله أنها ستغير حياته فهى تعرف أنها مجرد عادة وهو أرمل وأب لخمس بنات.
كانت تشفق عليه كثيرا ليس لأنه الرجل العجوز الذى يقترب من الستين ويحمل وحده هموم البنات ولا لعلامات الزمن التى تخط وجهه بخطوط قاسية كل خط منها يرسم طريقا سار فيه وحده دون بوصلة فراح يغدو يمينا ويسارا ولم يصل فتركت قدماه الحائرة والمشوار الطويل آثارا فى عينيه اختفى البريق إلا من سحابة رمادية غريبة شأنه شأن كل العيون التى هرمت فسحابة اللون الرمادى فى العيون كانت تحيرها حتى اكتشفت أنها تظهر مما رآه أصحابها رأت ما يكفى لأجيال فظهرت هذه الغمامة الرمادية اللون لتعلن أن لم يعد مكان للألوان الواضحة فى الحياة.
حتى ملابسه لم تتغير طيلة السنوات التى عرفتها فيه لا تعرف لها لونا واضحا ربما كانت بيضاء أو رمادية أو زرقاء، فقدت لونها وتهتك نسيجها والرقع التى يغطيها بها كانت تزداد يوما بعد يوم.
الغريب أن هذه الأشياء لم تكن هى المحركة لها كى تعطيه الاصطباحة يوميا كان شىء آخر يجعلها تتألم.. تفكر.. كلما رأته.. كانت وظيفته، فهو عم إبراهيم عامل الأسانسير الذى يجلس على كرسى صغير وبجانبه زجاجة المياه الكبيرة التى يحملها معه فى الصباح مثلجة ندية وفى نهاية اليوم يتعكر لونها وتظهر الأوساخ وآثار أصابعه عليها... و... مساحة الأسانسير لا تتجاوز المتر فى متر وهى تختنق فى الثوانى القليلة التى تقضيها واقفة خلفه.. تختنق من رائحة العرق والبرفانات الرخيصة وأكوام المساحيق التى تضعها عوانس المؤسسة فى الصيف ورائحة التراب والمرض فى الشتاء والمناديل المستعملة على جانبى المصعد كيف يتحمل ألا ترى عيناه سوى الحوائط يوميا.. كيف يتحمل روائح الجميع كيف يصعد ويهبط يصل ويبدأ للصفر من جديد كيف يتجدد العزم للمشوار بعد انتهاء كل محطة كيف لا يفقد الأمل؟
منذ أن بدأت فى عملها الحكومى وهو يجلس نفس جلسته.. عرفت أنه كان يعمل فى البوفيه ثم انتقل للعمل فى الأسانسير بعد أن تدهورت حالته الصحية فلم يعد يقوى على التنقل بين المكاتب فسجنوه داخل المصعد.. كانت تتخيل يومه داخل هذا القبر الصغير قبر له رواد ضيوف لدقائق يتبادلون معه التحية وأحيانا بعض الكلمات وفى أكثر الأحيان كانوا يصمتون لثوانٍ وهو فى العادة لا يتكلم كثيرا.. يسمع فقط لهمساتهم لأنصاف حوارات لبضع كلمات لا تكون حكاية، فاعتاد على متابعة الحوارات من منتصفها ورسم النهايات لها فى مخيلته يتلقى بعض الأسئلة عن الموظفين من جاء ومن غاب ومن تأخر.. وأحيانا يدير هو بعض الحوارات مع رواد الأدوار الأخيرة طامعا فى بعض ثوانٍ إضافية يصل فيها لنهاية الحكاية فيصل الرواد ولا يصل هو وقد اعتاد أنه لا حوار يكتمل فيبحث عن النهاية بمفرده أو لا يبحث فيستسلم، وعيناه لا تفارقان الحواجز تسجنه هو وخيالاته داخل «المتر فى متر» تاركا الدنيا لمن يعيش فيها ربما يرسم ابتسامة مرحبا بضيف جديد أو تكشيرة لآخر من الموظفين المتعجرفين الذين لا يلقون عليه التحية فيتمتم ببعض كلمات الاستغفار.
اليوم فقط وصل للنهاية.. الدور الأخير واكتملت الحكاية.. دخلت كعادتها اليومية فوجدت رجلا آخر يجلس مكانه، وعلى جانب المصعد كتبت ورقة صغيرة بأن عم إبراهيم انتقل لرحمة الله، وعنوان مجهول تحت الورقة كتب بخط صغير غير واضح وغير مكتمل.