حوار خاص فى لحظة أكثر خصوصية قد تكون الأخيرة بينهم.. ينظر عمر نجل الشهيد اللواء نبيل فراج لنعش والده، يضم ساعديه إلى صدره وكأنه يحتضنه رغم رقدته أمامه ساكنا، وهو يبكى.. مشهد لن يمحى من ذاكرة الوطن، ونظرة الولد الذى لم يكمل عامه الخامس عشر للجثمان، وكأن بينه وبين أبيه حوارا خاصا لا يعلمه إلا الله.. ينظر عمر إلى جثمان والده، وهو يسترجع آخر مشهد جمعهما قبل أن يذهب إلى عمله ويستشهد، فقد ذهب الأب واستشهد فى سبيل الوطن أثناء تأدية عمله، تاركا زوجة وثلاثة أولاد.. عمر وأحمد وزياد، أكبرهم عمر الذى التحق بالصف الأول الثانوى هذا العام والذى أصبح فى يوم وليلة يتيما، وأصبح أيضا رجلا للبيت خلفا لوالده. كان يشعر الأب أن أجله قد حان، وأن عملية كرداسة ستكون الأخيرة له، فذهب إلى بيته متأخرا عشية ليلة العملية، وسلم على زوجتهوأطفاله، وعندما لم يجد نجله الأكبر اتصل به وطلب منه الحضور، ومن هنا دب القلق والخوف فى قلب الزوجة المهندسة.
فسألته: هى فين المأمورية اللى انت رايحها؟ فأجابها: ديه مأمورية بسيطة هخلصها، وهاجى على طول إن شاء الله.
وتهرب من الإجابة عن زوجته، والتى شعرت فى قرارة نفسها أنها ستكون فى كرداسة، أتى عمر فى دقائق، فسلم عليه اللواء نبيل وأوصاه قائلا: ياعمر خلى بالك من والدتك وإخواتك الصغيرين.. أنا عندى مهمة فى كرداسة، ومش عارف هرجع ولا لأ.. إنت راجل البيت بعدى. صلى بهم الفجر، ثم انصرف إلى مهمته.
ترأس البطل مجموعة العملية وقاد بهم السيارة، وعند بزوغ النهار وصلت الكتيبة إلى مداخل القرية، وقبل أن ينزل طلب من رجاله نطق الشهادة.
وكان على موعد معها، ففى أول عشر دقائق من المهمة.. اخترقت رصاصات الغدر صدر البطل، لم يتحملها.. كتم أناته .. وقع، واتكأ على يده، لم يسقط سلاحه، ولم يسقطهوسلاح الشهيد هو شرفه؟!.. لم يهتم لنفسه، اهتم فقط لأمر سلاحه، فسلمه لمساعده ثم هوى.. استشهد البطل أمام أعين تلامذته ليضرب لهم أروع مثال للشهادة.. مثال البطل الذى يموت واقفا، وسلاحه مرفوعا. -كل هذه المشاهد استحضرت أمام عين عمر أثناء صلاة الجنازة.. أخذ الابن ينظر إلى النعش، وكأن هناك حوارا هو فى حقيقة الأمر.. الحوار الأخير.
عمر: رايح فين وسايبنا لوحدنا فى الدنيا يا بابا.
الشهيد: أنا مش هسيبكم.. أنا هفضل معاكم بقلبى وبروحى، أنا استشهدت علشان إنت واخواتك وأصحابك تعرفوا تعيشوا فى وطن من غير إرهاب.
عمر وهو يمسح دموعه: بس أنا لسه صغير، وإخواتى صغيرين مين هياخد باله مننا ومن أمى كمان.
الشهيد: ما تبكيش يا حبيبى أنا مش هفارقكم لحظة، دايما هتلاقينى وراك، وفى ضهرك. عمر: لأ يا بابا.. أنا زعلان أوى منك.
∎الشهيد: ليه ياعمر
عمر: إنت كنت عارف إنك هتموت.. ليه نزلت وسبتنا.
الشهيد: أعترف لك يا عزيزى.. لقد كنت فى حيرة من أمرى.. هل أظل معكم، أم أنزل لأؤدى عملى، لا تلومنى لأنى ذهبت، ولا تتهمنى بالتخلى عنك صحيح.. كنت أشعر أننى سأموت إن نزلت فى هذا اليوم، لكنى لو كنت جلست معك.. سنموت سويا ألف مرة.
نزلت يا نبتة عمرى لأجلب لك حقك.. لأضمن لك حياة كريمة.. لأضمن أنه لن يرهبك أحد.. لن يغصبك أحد على شىء لا تريده.
ولتعلم يا حبة عينى أننى لن أتخلى عنك أبدا.. سأظل إلى جوارك، فأنا استشهدت فى سبيل الوطن.. وسأكون دائما فى روحك المتمردة.. ستكون جزءا منى فأنا مت لأجلك، وأنت ستكمل المشوار من بعدى. وإن احتجت لحضنى فحضن الوطن سيكون بديلى.
وتأكد أن ما ضاع حق وراء مطالب، وتعلم ألا تسأل الطاغين لماذا طغوا لكن اسأل العبيد دائما لماذا ركعوا؟! وتذكر دائما أن شجرة الحرية تروى بدماء الشهداء.. سامحنى.
وصدقنى يا حبيبى.. أنا مت لكن سبت ورايا راجل.. خلى بالك من والدتك وإخواتك ياعمر.
عمر: خلاص يابابا.. أنا من النهاردة مش هبقى عمر الصغير.. هبقى راجل وهاخد بالى من أمى وإخواتى، وكمان هذاكر علشان أدخل كلية الشرطة وأبقى ضابط أدافع عن بلدى وأكمل رسالتك، وأموت شهيد زيك.
ودع عمر وإخوته والدهم إلى مثواه الأخير، دفن الشهيد.. ورحل الناس، ورجع الأطفال إلى بيتهم مع والدتهم وحيدين يبكون فراق والدهم، وينتظرون فى خوف مصيرهم المجهول بدون أب مع أم وحيدة، وطفل كبير.. وعد أباه بأن يكون رجل البيت من بعده.
عمر لم يكن الطفل الأول ولا حتى الأخير الذى وجد نفسه بين ليلة وضحاها رجل البيت، فكم من شهداء راحوا فداء الوطن، وكم من أطفال وزوجات يتموا، وترملوا باسمك أيها الإرهاب اللعين؟!