اوعاك تكون زعلان يا أبو الولد أحمد.. واوعاك تقول كان صُغَيَر عمره تمنتاشر.. أحمد دا راجل والله من يومه.. طلب الشهادة وسعى لها ومهمهوش غادر.. نزل بصدره الميدان وأصحابه نزلوا معاه.. رجع صحابه م الميدان وهوّ مرجعشى.. وهوّ زى ما قال لأمه ولأخواته: أنا نفسى أبقى شهيد.. يا ريتنى أبقى شهيد.. يا هل ترى يا ابنى.. لقيت هناك أحسن؟! ها هى حجرتك تبكى فراقك.. ها هى ملابسك ما تزال تضم بين نسيجها رائحتك.. كلما اشتاقت إليك أمك.. تذهب فى خفية من الجميع لتضمها بين أحضانها.. كنت تنمو بين يديها كنبتة بديعة زاهية.. كلما أخرجت برعمًا تهللت وسقتها أكثر بحبها وحدبها وعنايتها.. حتى صرت يافعًا.. صار عمرك ثمانية عشر عامًا.. كبرت يا أحمد ولم تعد ذلك الطفل الصغير الذى ترضيه لعبة أو كنت تحلم بدخول كلية الشرطة، كان كل أملك أن تخدم وطنك لتموت شهيدًا.. فما كذَّبت خبرًا وبعد أن أنهيت دراستك الثانوية عمت الفرحة روحك.. ها أنت على بعد سنتيمترات من تحقيق حلمك الغالى. فلاش باك.. هل لديك وساطة تتقرب بها للجنة الاختبار؟ لا ليست لديك واسطة وليست لديك محسوبيات ولم تكن يومًا ولا لوالديك ممن يحبون "الكوسة" التى يبذرونها فى أرض الفساد فتكبر فى ثانية!! قطع: ها أنت تتقدم بأوراقك لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. وجدت أنها الأقرب لتحقيق حلمك، اجتهدت وثابرت.. وها هى الامتحانات على الأبواب..ها هى آخر مادة.. كدت تنتهى.. اليوم 25 من يناير.. اليوم هو أول يوم فى حياة مصر الحرة.. نعم.. الخميس 25من يناير.. لماذا كنت مصرًا على النزول فى هذا اليوم؟ لم تكن لتصبر إلى اليوم التالى حتى تنتهى من امتحاناتك؟ ألهذه الدرجة كنت تشتاق للشهادة؟! فلاش باك: وجهك متهلل بالفرح، ها أنت عدت من كليتك لتعلن أنك انتهيت من الامتحانات وأنك أديت ما عليك وما على والديك إلا أن يتركاك لتنزل إلى ميدان التحرير مع أصحابك، لكن أمك قالت لك: ارتح الآن من تعب الامتحانات ثم نرى، فاستسلمت لفكرتها ظاهريًا وخلدت للنوم. قطع: الجمعة صباحًا.. صوت أصحابك فى الخارج يناديك.. لم ترد أمك أن ترد عليهم حتى لا توقظك.. حاولت أن تفعل أى شىء لتحول بينك وبين نزولك إلى الميدان، بكت أمك أمامك كطفل حتى ترجع عما فى رأسك لكنك كنت مصرًا، وبعدما أعياها البكاء.. تبدو مبتسمة.. ترى ما قلت لها؟ هل أقنعتها أنك لن تنزل مع أصحابك إلى الميدان؟ وأنك ستقضى اليوم معها ومع والدك وأختيك؟ "خلاص.. ماتبكيش.. خلاص مش هانزل" بهذه الكلمات اطمأن قلب أمك، ومما أكد هذا الشعور أنك دخلت غرفتك وأغلقت بابها عليك.. ولما أحسست أن الأمر استتب لك وأن أمك بدأت تنشغل فى أمور البيت استأذنت أبيك فى النزول لشراء بعض الأشياء من تحت البيت.. لم يشك فيك والدك، فالجو برد، وأنت تلبس تيشيرت وبنطلون جينز، هذه الملابس لا توحى بما نويت عليه. ساعة، ساعتان، ثلاث ساعات.. ولم ترجع، بدأ القلق يغزو الجميع.. كيف يستدلون على مكانك؟ لا شبكة إنترنت ولا خطوط موبايل ولا شىء سوى الهاتف الأرضى.. يأتى صوت أمك ملهوفًا: ألم ترَ أحمد؟ أما جاء أحمد إليك؟ ألم يمر أحمد عليك؟، وجاء حظر التجوُّل ومع لحظاته الأولى انتشرت الأسرة فى كل مكان.. ها هم أعمامك وأبوك وأمك يبحثون عنك يا قرة أعينهم، لم يجدوا لك أثرًا.. لماذا لم يبحثوا عنك فى المشرحة ولم يفتشوا بين الجثث المتراصة فى ثلاجة المشرحة؟ قطعًا لم يتوقع أحد أن يجدوك هكذا والدماء تسيل من فمك الذى كانت تعلوه أحلى ابتسامة، ما الذى كان يدور برأسك الصغير وأنت فى حجرة العناية المركزة والأجهزة تحيط بك؟ لم ينفع جهاز التنفس الصناعى ولم يُجُدِ معك أى طب ولا دواء.. وبالتأكيد كانت مشاهد ما تدور أمام عينيك المسبلتين كشريط سينما.. هل رأيت مسيرة حياتك القصيرة؟ هل رأيت نفسك وأنت تضحك وتكركر مع أختيك؟ هل شاهدت نفسك وأنت تهمس لأمك بشىء ما؟ هل رأيت نفسك وأنت متحرج من أبيك؟ لم تكن تطلب منه شيئًا على حبكما الشديد بعضكما لبعض، ولكنه الخجل الجميل.. والحياء اللذان تحليت بهما طوال عمرك! يااه يا أحمد!! هل كانت آخر المشاهد التى أظلت عينيك المسبلتين صورتك وأنت صغير جدًا وأخبار استشهاد الطفل محمد الدرة تملأ الجرائد وشاشات القنوات، لتقول بعزم ما فيك: "عاوز أروح فلسطين أحررها م اليهود وأموت شهيد"!! ولما كبرت ورفضوا أوراقك فى الحربية قلت لأمك: عاوز أموت شهيد؛ وترد باسمة.. إزاى؟ معدش عندنا حروب.. أنت عاوز البلد تدخل فى حرب عشان تستشهد؟ لكنك صمت ولم ترد وكأنك كنت تجهز نفسك لشىء عظيم. النهاية.. ها هو يوم السبت وجدوك أخيرًا فى ثلاجة الموتى.. آه يا حبيبى نحسبك شهيدًا عند الله ولا نزكيك على خالقك.. كم تمنيت الشهادة صغيرًا.. وقدمت من نفسك المثل فى ذلك.. ها هو جسدك سيكون شاهدًا عليك يوم القيامة إن شاء الله، ورصاصة الغدر التى انغرزت فى صدرك لن يستطيع أحد أن ينكرها أو ينكرك.. لتنضم بعدها إلى موكب الشهداء.. شهداء الدفاع عن الحق والعرض والحرية.. فهنيئًا لك يا أحمد.. يا أول شهداء الجيزة وزينتهم!