فى حلقة من حلقات مسلسل التهميش الذى طالما عانت منه أفقر محافظة مصرية أسيوط أستيقظ الجميع صباح يوم السبت الأسود على كارثة صدام حافلة معهد النور الأزهرى الخاص بقطار عند مزلقان قرية المندرة بمنفلوط.. ذعر انتاب أهالى الضحايا.. الجميع هرع إلى مكان الحادث.. كل يتمنى أن يرى ابنه حيا أمامه، حتى وإن لم يخل الأمر من بضعة جروح أو كسور، لكن سرعان ما تقلصت آمال أكثر من منتصف الأهالى، فأصبح حلمهم أن يجدوا جثث أطفالهم كاملة، وألا يضطروا إلى جمع رفاتهم فى أكياس بلاستيكية أعدها لهذا الغرض من سبقوهم فى الوصول لموقع الحاث، فمن بين الحجارة الصغيرة القابعة بين شريطى القطار قد يجد أحدهم إصبعا صغيرا مقطوعا، أو قطع لحم متناثرة هنا وهناك، كان ذنب صاحبها أنه أراد أن يمسك قلما ويتعلم، بالرغم من إهمال بلده له، ذلك الإهمال الذى جعل أطفالا صغارا من قرية المندرة وقرى أخرى مجاورة لها يجتمعون كل صباح، ويقطعون مسافة 52 كيلو ذهابا وإيابا إلى قرية بنى عديات ليصلوا لمعهدهم، حيث تفتقد قراهم لوجود مدارس.
كالعادة، عاملتهم مدرستهم كقطيع لا قيمة له، فعندما يركب 07 طالبا حافلة مدرسية لا يمكن بأى حال من الأحوال أن تستوعب أكثر من نصف عددهم، فهذه مأساة لا تقل أبدا عن الكارثة الأساسية، فما أقصر الوقت الذى عاشوه هؤلاء الأطفال ما بين مهدهم ولحدهم، وما أقسى الظروف التى عانوا منها خلال سنوات عمرهم القليلة، فبخلاف أن قراهم لا يوجد بها مدرسة لتعليمهم، ومدرستهم لا يوجد بها وسيلة آدمية لتنقلهم إليها، فحتى المستشفى التى نقل إليها المصابون افتقرت لأبسط مستلزمات الإسعاف، فالجميع فى موقع الحادث لا يرى سوى كتب وكراسات رسم متناثرة هنا وهناك، لم يبق من صاحبها سوى طابع لصق فوقها وعليها اسمه، شنط بالية وأحذية متهالكة تبين ضيق ذات اليد لأسرهم ولكنهم رغم ذلك تحملوا مشقة تعليمهم وتحفيظهم كتاب الله، وللأسف سيتحملون حسرة فقدان ضحكتهم التى كانت تملأ أرجاء المكان قبل أن يعتصرهم قطار الموت، وتكتسى مقدمته من حمرة دمائهم الذكية، لتعتصر معها قلوب أسرهم وقلوب المصريين جميعا، وكما هو الحال فى جميع مناحى الحياة فى هذه القرية الفقيرة، فسيارات الإسعاف التى جاءت لنقلهم خلت من الإسعافات الأولية، فتزايد عدد الضحايا بالطريق، وفى رحلة لا يمكن وصفها بالطويلة قطعها الأطفال ما بين المشرحة ومثواهم الأخير، بينما كانت الرحلة الأصعب هى التى عانى منها المصابون الصغار، وفى المساء لا يمكن أن تمشى وسط شوارع القرية إلا ويستوقفك سرادق عزاء، الجميع فى القرية حزين على فقدانهم لكنه لا يرغب فى تحميل عامل المزلقان المسئولية الكاملة، فالمسئولية الأكبر على رئيس بلدهم الذى زارهم منذ أسبوعين، ولم يستمع لمشاكلهم الحقيقية، والتى كانت من أهمها إصلاح حال القطارات والطرق فى بلدهم.. أهالى القرية يكرهون تواجد الكاميرات والصحفيين هنا وهناك ولسان حالهم يقول هل اليوم فقط تذكرتمونا، رغم أننا منذ سنوات نعانى من نفس الفقر والإهمال والتهميش، لا يطيقون من يحدثهم عن ضآلة مبالغ التعويضات فى مقابل 05 ألف دولار التى صرفتها حكومة النظام السابق كتعويضات للروس ضحايا أسماك القرش منذ عامين، وإن كان معظم الأهالى ظلوا داخل سرادقات العزاء يستقبلون التعازى فى وفاة أولادهم، فقد انقسم باقى أبناء القرية ما بين مقيمين لعزاء شعبى، وبين مرابطين فى مكان الحادث رافضين أن يبرح القطار مكانه قبل القصاص، بينما تجمهر الجزء الأخير أمام مبنى المحافظة هاتفين برحيل قنديل وحكومته.
∎ إلى متى سنحمل عصر مبارك مصائبنا؟
كانت هذه هى أبرز مشاهدات مجموعة من شباب ائتلاف شباب الثورة بأسيوط الذين تحدثوا ل «صباح الخير» عن الأوضاع المؤسفة التى رأوها بأعينهم فى ذلك اليوم، حيث يقول محمود نفادى المنسق العام للاتحاد أن قرى الحواتكة والمندرة والجولى تعانى من خطورة هذا المزلقان منذ سنين لدرجة إن الأهالى قدموا 9 بلاغات، ولكن لم يستمع لهم أحد، فإلى متى سنحمل عصر مبارك مصائبنا؟ فالملف الذى حاولنا تقديمه للرئيس أثناء زيارته ولم نستطع كان الجزء الكبير منه يتحدث عن المشاكل التى نعانيها فى الطرق والقطارات بشكل خاص، ولكنه للأسف لم يصل، وقد شاهدت قدوم مجموعة من أعضاء الجماعة الإسلامية المنتمين لحزب البناء والتنمية بأسيوط إلى موقع الحادث فى سيارات تابعة للمحافظة التى أوفدتهم ليتحدثوا مع الأهالى المرابطين أمام القطار، فى محاولة لإقناعهم بالسماح بسير القطارات مرة أخرى، لكن الأهالى رفضوا ذلك واشتبكوا معهم، لأنهم يعلمون أنهم بمجرد أن يبرحوا المكان سيضيع حق أبنائهم كما ضاع من قبل.
∎ مستشفيات بلا أدوية أو معدات
وبالانتقال لمستشفى أسيوط الجامعى حيث يقول الدكتور على زيدان جراح الأورام ورئيس قسم الجراحة العامة بالمستشفى إنه بمجرد حدوث الحادثة فى السابعة صباحا توفى على الفور 04 طفلا، وذهبوا على الفور إلى مستشفى منفلوط العام، بينما فى الطريق إلى مستشفى أسيوط الجامعى والذى يبعد نحو نصف ساعة عن مكان الحادث توفى 7 أطفال، ثم توفى ثلاثة أطفال داخل المستشفى، كما توفيت المشرفة وسائق القطار، أما الحالات الحرجة المتواجدة بالمستشفى فهم 7 حالات، فهم فى العناية المركزة، وعن المستشفى يقول إنه لا ينقصه أى من الإمكانيات والتجهيزات والأطباء، لكن ما ينقصها وجود أدوية حيوية يحتاجه المستشفى منذ شهور، من بينها بيكربونات الصوديوم التى احتاجها الأطفال، وقد أرسلنا خطابات كثيرة لوزير الصحة قبل ذلك، حيث مات عدد كبير من المرضى سابقا بسبب نقص تلك الأدوية، ولكن لم يجبنا أحد، فمن المخجل أن تكون أكبر مستشفى فى أسيوط تطلب من أهالى المصابين وسط حزنهم الشديد وهلعهم على أطفالهم أن يخرجوا ليشتروا مسامير وشرائح وأدوية ناقصة داخل المستشفى، فالحقن تم توفيرها عن طريق نداء أطلقناه كأطباء فى إحدى القنوات الفضائية، أما الأهالى فقاموا بالتبرع بالدماء، أما بخصوص الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء فقد جاء للمستشفى كضيف، فقط خمس دقائق قضاها بداخلها قاموا بالتصوير خلالها مع المصابين دون أدنى فائدة، ولذلك ففى طريق خروجه لم يستطع الخروج من باب المستشفى الرئيسى ولم يركب السيارة التى جاء بها، حيث حاصرها الأهالى وهتفوا باستقالته.∎
أطفال نابغون
وفى حوارنا مع د. رفعت على إسماعيل المشرف على معهد نور الأزهر النموذجى الخاص ببنى عدى أصر على أن ما صرحت به النيابة بأن حمولة الحافلة 92 راكبًا بينما تم تحميلها ب76 طفلا هو أمر عار من الصحة، حيث يقول الحافلة بها 33 كرسيًا وكانت تقل حوالى 05 طفلا، فالأطفال معظمهم صغار وجلوس ثلاثة أو أربعة على كرسى واحد لايعد مشكلة، أما باقى الضحايا فهم أناس لا يتبعون المعهد، ولم يكونوا موجودين داخل الحافلة، بل تصادف مرورهم وقت الحادث، مشيرا إلى أن معظم الضحايا كانوا أصحاب سن صغيرة جدا مابين مرحلة الروضة والابتدائية، وختم حديثه بأن معظم من راحوا ضحايا للحادث كانوا أطفالا نابغين وحافظين للقرآن، فأحدهم كان فى السنة الثالثة الابتدائية وكان خاتما لتوه القرآن الكريم.∎