حدث أن كنت شاهد عيان على هذا الحوار الذى دار أمامى بأحد المقاهى. أنقله إليكم بلا رتوش ولا تدخل ولا تعليق. التقى الصديقان «ناصر» و«منير» فى المقهى قال «ناصر»:
ألم أقل لك منذ البداية الطاعون أو السرطان؟.
أجاب «منير» بقدر هائل من اليأس والمرارة: نعم لقد كنت متوقعا هذا منذ البداية.
أستطرد «ناصر»: ياصديقى.. دولة الصياد عادت لا تبالى بحكيم أو شجاع. أتذكر قصيدة «محمود درويش» للحقيقة وجهان، ورددا معا: «للحقيقة وجهان والثلج أسود فوق مدينتنا.. لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا كل شىء معد لنا سلفا.. فلماذا تطيل النهاية ياملك الاحتضار!»
وقال «منير» فيما يشبه التوسل: لكن الأمل مازال معقوداً.. ألم نحصد بعيدا عن الإسلام السياسى أكثر من نصف الأصوات؟ ابتسم «ناصر» قائلا: ما الفائدة إذا كانوا نجحوا فى تفتيت أصواتنا وتمزيق شملنا.. وتنكر من يطلبون المساندة اليوم لكل وعودهم وطعنوا الثورة من أجل مصالحهم هذا كان دوما تاريخهم مع الأسف.. يتحالفون مع السلطة القائمة ضد التجمع الوطنى، ثم يستنجدون بهذا التجمع بعد ذلك بعد أن نقضوا تحالفهم معه لقد فقد الشعب الثقة فيهم.. بعد أن تنكروا لجميع وعودهم ومارسوا علينا الأكاذيب، وهم يعقدون الصفقات ويوزعون الغنائم، ويستأثرون باسم الدين بكل السلطات بدعوى حق المغالبة لا المشاركة بعد أن كانوا يدعون العكس.
وقاطعه «منير» قائلا: لكن البديل أكثر سوءا.. فقد يكون إعادة صريحة لنظام سابق قامت الثورة للقضاء عليه بما يمثل من قهر وفساد واستبداد وإذلال.. تحقيقا لأحلام البسطاء الشرفاء فى الكرامة والعدالة والحرية والمساواة.
وقال «ناصر» معقبا: لكن الثورة على نظام مدنى مهما يكن واقتلاعه من الجذور قد يكون أسهل بكثير من فاشية دينية تملك احتكار الحقيقة المطلقة وتكفر الجميع باسم الدين ودولة المرشد. إن من يختلف هنا فى الرأى يصبح خارجا عن الدين لقد تحول «معاوية» ابن هند بنت عتبة قاتلة «حمزة» عم الرسول صلى الله عليه وسلم - وماضغة كبده من المبشرين بالجنة وهو لديهم من الصحابة المنزهين رغم تأسيسه الدولة الأموية على أشلاء آل البيت، وهو أول ملك عضوض فى تاريخ الإسلام والذى بمقتضاه قام فقهاء حركات الإسلام السياسى من أمثال «المرجنة» و«الجبرية» بالتمكين لهذا الحكم. تماما كما يفعل الاستعمار حين يتحالف مع قوى الرجعية فى العالم باسم الدين لضرب حركات التحرر الوطنى.. وكما تفعل الرأسمالية المتوحشة باسم الدين حين ترسخ الطبقية الظالمة وتلصقها بقضاء الله، ليزداد الأثرياء ثراء بإفقار طبقات الشعب وحقهم العادل فى الثروة.
وشرد «منير» وهو يحدق فى اللا شىء ويهمس فى زفرة أسى مكتوم: لكنى مازلت أرى البديل أيضا أكثر سوءا.. إنه ملطخ بدماء الشهداء.. وعذابات السجون وآلام المنافى البعيدة.. ودولة الفساد والاستبداد والقهر والظلم وتجريف الوعى وإفساد الفطرة الإنسانية السوية. إنه الجحيم بعينه يا صديقى وضياع حلم انتصار الثورة وإراقة الدماء وسحق الثوار والانتقام منهم والتنكيل بهم بأبشع الصور باسم شرعية الصندوق. إن الضمير الوطنى يأبى أن يختار أيا منهما.
هنا تدخل شاب يجلس فى المقعد الخلفى مقاطعا: هناك شعب امتلك إرادته وثورته مستمرة فى كل ميادين التحرير.. وسيكتب تاريخه بإرادته الحرة ودماء شهدائه الذين أعلنوا فى كل مكان رفضهم للدولة الدينية والدولة العسكرية.