ظهيرة الأول من يناير نزلت من شقتنا في سيدي بشر للاطمئنان علي صديقي ممدوح جرجس الذي يعمل بمستشفي مار جرجس الملاصق لكنيسة القديسين، علي بعد شارعين أو ثلاث دقائق من الشقة، لم اتمكن من رؤية ممدوح بسبب الاحتياطات الأمنية ولا يزال تليفونه صامتاً: العمل والموبايل. ترددت علي المكان كثيراً من قبل، الكنيسة أمام المسجد، مدخلها يسبقه سلم خاص طويل بارتفاع طابق أو أكثر من بعيد يبدو المنظر بشعاً، غاية في الوحشية، آثار دماء وحطام، وحريق وسواد، وقفت طويلاً لعلي أري صديقي دون جدوي، عدت محبطاً مجهدًا وربما يائساً.. لم أنم مثل كثيرين ليلة أمس، عدت أتابع ما جري بكل مشاعر القرف «عذرا» بيانات الصحة تشير إلي مصرع واحد وعشرين مصرياً هكذا.. بكل إجرام مع عشرات الجرحي يإلهي 21 شهيداً؟! تري .. كم أمًا وزوجة وطفلاً وجاراً وصديقاً وزميلاً اعتصرهم الألم لفقد عزيز.. كم يتيماً وثكلي وأرملة؟ أرواح بشر تضيع هكذا؟ دون ذنب أو منطق أو فائدة أو هدف؟ ويبيت المصريون جميعا - جميعاً عدا عدة مجرمين - ليلة هي الحزن بعينه. في مثل هذا اليوم الدامي من العام الفائت، وبعد أن شاركت الإخوة: جورج وانطوان وروماني ونعيم، وهم جيراني لقاء تهنئة بعيد الميلاد المجيد.. نزلت محطة الرمل كي أصدم بخبر مذبحة نجع حمادي في العيد أيضاً. تساءلت ضمن مقال صحفي: مصري ذهب يتعبد في كنيسة.. ما هو مبرر قتله؟ كي تتحول أيامنا إلي دموع .. هل هناك جرم أكثر انحطاطاً، ثم تولد لدي شعور بالخجل. الملاحظ - بكل الأسف - أن المذبحة اتخذت هذه المرة أسلوباً أشد دموية ودناءة ومن ثم كانت خسائرنا بشرية أكثر والتشويه أقسي، حتي وإن كان التوقيت شيطانياً مشتركاً: وقت الذروة.. المناسبة والزحام بعد القداس والتراتيل، وقبيل عيد الميلاد المجيد. كنت قد قررت يأساً عدم تكرار الكتابه عما يسمي المشكلة الطائفية، قانون دور العبادة الموحد، وقانون الأحوال الشخصية لدي الأقباط، وكذا عن مقولات: الوحدة الوطنية، الهلال مع الصليب، ذلك بعد أكثر من خمسة مقالات علي ما اذكر ، لكنني أعود مضطراً محتقناً كي أتساءل: ألا نردد : «من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاًَ»؟ ما هو المغزي وراء قتل قبطي شريك وطن وصاحب أرض، يسدد ما عليه من ضرائب، يخدم في العسكرية، يعمل وينتج!؟ ليس هناك دين أو عقيدة أو منطق يبرر اغتيال أو ترويع مخلوق، حتي الحيوان لا يباح قتله دون سبب، لكن البعض هنا لم «يرق» له ذلك ثم : كيف يستطع قاتل أو قتلة ال21 النوم أو النظر للمرآة، ناهيك عن مواجهة الخالق؟! كيف؟! وتليفون ممدوح لا يرد، والكابوس متصل واهرب للذكريات: مدرسة الاقباط الابتدائية وأبلة انجيل، طنطا الثانوية وسمير اسطفانوس ووالدة القس، الراحل رءوف مسيحة أحد أصدقاء العمر، القاهرة وسنوات الكورنيش ومحمود ومجدي، الإسكندرية وسنوات أخري مع خمسة مسيحيين في شقة السلطان حسين، ثم كامب شيزار وسيدي بشر وبداية الهوان ضمن مسلسل الدم البغيض والمقزز. يتصادف أن عشت طويلاً مع مسيحيين، في مصر وخارجها ولم أشعر أو يشعروا لحظة بفرق أو تميز فالدين لله والأوطان للجميع، وكل الشر فيهم الملائكة والشياطين: اليهودي والمسلم والبوذي والمسيحي والهندوس والعلماني بل والملحد.. حيث رحمة الخالق تسع الجميع، وتحاسب الجميع أيضاً. .. وتتداعي الذكريات في طنطا.. كان يفصل منزل الأسرة عن الجار.. مجرد جدار كذا سنتميتر، وكانت سعادتنا أيامها تلك السهرات علي «السطوح» المشتركة.. حيث العشاء والسمر وحواديت الأطفال، كان الجار صليب افندي ولا يزال أولاده يراسلوننا من استراليا حتي الآن.. لكنها كانت أيام. والماضي لا يعود علي أي حال. وكان ذلك كله حال المصريين عموماً دون الحاجة لافطار الوحدة الوطنية وغيرها من شكليات لا تفيد. كان قبل زمن محمد حسين يعقوب وهو الحاصل علي دبلوم تجارة، تحول بعدها إلي عالم الدين!! وصاحب حلقة تليفزيونية تذكرك بحلقة سمك تحتوي علي كل أنواع التطرف ومع يعقوب هناك أبو اسحاق الحويني، وكذا محمد حسان وغيرهم من ملوك الفتنة الذين يثيرون صخباً وضجيجاً غير نافع يحض صغار العقول وضعاف النفوس علي كراهية الغير والدنيا عموماً، و«الغير» هنا لا أقصد به المسيحي فقط وانما كل من يخالف بشاعة الفلسفة الصحراوية الدخيلة علي يمصر والتي تهاجمنا دون رادع. يوم 3 يناير وصوت ممدوح يصل حزينا «نشكر ربنا أنا اتصلت بك علي كامب شيزار.. وموبايلك مقفول، كانت ليلة فظيعة.. صدمة.. جاري رحل.. منظر الجثث كابوس يطاردني.. أكلمك بعدين اطمئن» هذا صديقي.. لكن ماذا عن ال21 شهيداً وال90 جريحاً؟ وماذا عن أحداث جرت قبلاً؟ أخذت اكرر: المشكلة والحل ليست الأمن، أن منظر شرطي يحرس مواطناً يصلي يعتبر إهانة لبشريتنا جميعاً!! المشكلة تكمن في توغل فكر متطرف يدعمه غياب وعي عام، ومع سلوك استرزاق ممن يكسبون الملايين في الفضائيات حيث التطرف والتشدد يوفران الثراء السريع دون جهد، وهم من أفتي أحدهم بتحريم إلقاء التحية علي شريك الوطن، هذا ومع تزايد أعداد السذج وارباب البلاهة يزداد الاغوار ونصل إلي ما نحن فيه. العالم من حولنا يتنافس ويتقدم علماً وفكراً بينما نهتم بدخول الخلاء بالرجل اليمين والتخدير من الثعبان الأقرع. الحل يبدأ من الحضانة والمدرسة وخطبة الجمعة والإعلام، مع إعلاء مبدأ المواطنة والدولة المدنية، ومع المساواة في كل مجال: الحقوق والواجبات، الثواب والعقاب، وللمرة الألف: الدين للخالق. الحل يبدأ بنبذ كل فكر دخيل لا يتفق مع سماحة مصر الفرعونية، القبطية الإسلامية.. وإلا فإن الآتي أسوأ.