أيقونة الإغراء الشقراء كاتبة وشاعرة مرهفة وقارئة نهمة. هكذا يطالعنا وجه مارلين مونرو (1930-1962) الجديد والمفاجئ بعد ما يقرب من نصف قرن علي رحيلها. ماذا عن مارلين مونرو الكاتبة؟ تتساءل دار فارار شتراوس آند جيروكس الأمريكية علي ظهر غلاف كتاب "شذرات" الذي يحمل للعالم للمرة الأولي رسائل وخواطر ومذكرات مونرو المبعثرة وقصائد شعرية. هذا الكتاب الحدث من شأنه أن يعيد قراءة وتقييم حياة واحدة من أعظم نجوم السينما في القرن العشرين، سنقترب من حل لغز سيكولوجية مارلين مونرو، ونكتشف في كتاباتها عن عمق إنسانيتها التي اختفت خلف جسدها المغري ومغامراتها العاطفية ونزواتها الجنسية. خلف الشهرة والدلال والجمال الأخاذ الملهب دوما، كان هناك خراب نفسي وحسرة روحية ومعاناة وجودية أحاطت بحياة مارلين مونرو جراء السمعة الفضائحية التي لحقت بنجمة هوليوود، ومع كل هذا لم تفقد أسطورة الإغراء الهوليوودية في كتاباتها الذاتية الحميمة إحساسها بآلامها وروحها المرحة في آن واحد. باختصار: لمواجهة صعاب حياتها المتزايدة وكنوع من التحليل الذاتي، لجأت مارلين مونرو إلي الكتابة. ظلت هناك منطقة غائمة، رمادية وغامضة في حياة مارلين مونرو، هي موهبة مونرو الأدبية وقوة تعبيرها، وأخيرا ظهرت تلك الموهبة علي الملأ وبدلائل بخط يدها تنفي عنها صفة "الشقراء البلهاء". و"شذرات" هو مجموعة غير مسبوقة من المذكرات والخواطر كتبتها مارلين لنفسها ورسائل وأشعار بخط يدها لم تنشر من قبل، سجلاتها في كراسات خاصة وعلي أوراق الفنادق، إلي جانب ما يحتويه الكتاب من مجموعة صور نادرة لم تشاهد من قبل للنجمة صاحبة "البعض يفضلونها ساخنة"، مشاهد تهجر العري والإثارة وتستبدلها بجلسة حميمة مع رواية جيمس جويس الصعبة "يوليسيس" أو "عوليس" في ترجمتها العربية. بدأت صاحبة المغامرات العاطفية مع المشاهير ومنهم عائلة كينيدي بالكتابة وهي في السابعة عشرة من عمرها، ومعظم ما كتبته يعود للسنوات العشر التي سبقت وفاتها - نتيجة الانتحار أو الاغتيال - في عام 1962، كما يوضح الكتاب مدي حضور وزخم الجانب التأملي لدي مونرو، ففي قصيدة بتاريخ 1960 كتبت تناجي الكاتب آرثر ميللر زوجها "أيها الصمت مازلت تؤلم رأسي وتصم أذني". هناك أيضا ملاحظات دونتها عن حجم استيائها من تصويرها كرمز للإغراء، وتكشف يومياتها وملاحظاتها عن امرأة أحبت بعمق وسعت إلي الكمال في حياتها ومهنتها، كما تظهر كيف تمتعت مونرو بالقسوة حين تحلل حياتها وتقيم نفسها، مثلما تكشف عن مكامن شخصيتها كامرأة لعوب ومرحة وساحرة. الكتابة تعبر عن العوالم الداخلية، هكذا آمنت النجمة الهوليوودية، يحكي محررا الكتاب ستانلي بوتشهال وبرنارد كومنت كيف كانت تختلي مونرو مع نفسها والقلم أو آلتها الكاتبة، لتسجل علي الورق خواطرها وانطباعاتها المختلفة. عبر تأملاتها في الحياة، ومقتطفات من ذكرياتها وقصائد شعرية، تعيد مارلين مونرو نسج قصتها وحضورها في الذاكرة العالمية، لا نقترب هذه المرة من مقتنياتها التافهة وصورها المثيرة وأفلامها أو حتي خصلات شعرها وكلماتها النابية وقصص عن تفننها في لفت الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي. تصور مجموعة الخواطر التي يحويها كتاب "شذرات" مجريات الزمن والأحداث التي عاشتها النجمة، وترصد مشاغل وهواجس وآمال كانت تدونها مارلين مونرو علي قصاصاتها المبعثرة، إنها سيرة حياتها بشكل أو بآخر علي الرغم من أنها لم تكن تهتم كثيرا بما كانت تكتبه. ولكن الكتابة عندها كانت تجمع شتات أفكارها وتعيد تنظيم حياتها، وتفصح عما كانت تعجز عن التعبير عنه أمام عدسات الكاميرات والشاشة، "إن هذه الكتابات تسلط الضوء علي شخصيتها وتعطيها جوهرا فكريا وأدبيا قيما لم يتصوره كثيرون عن نجمة الإغراء" كما كتب الناشر. الممثلة التي جسدت الفتنة والجمال في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، انكبت علي دراسة تاريخ الفن، وأبحرت في أعماق فرويد والأدب الكلاسيكي، وقرأت لفرويد وشتاينبك. كتبت في دفاترها الفقرات الشعرية التالية: "الممثلة لا تمتلك فما/ تسمع بالعيون/ طوفان/ توتر". وفي نيويورك، سبرت مونرو أغوار علم النفس مع الدكتور مارجريت هوهنبرج، وهناك أيضا قابلت آرثر ميللر، الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير، وتزوجته في عام 1956، وقرأت في أحد يومياته أنها خيبت آماله، فردت في يومياتها: "كنت أخاف علي الدوام أن أصبح زوجة أحد ما، لأنني تعلمت من الحياة أنه لا يمكن أن نحب الآخر بسهولة". كانت الكتابة بالنسبة لمارلين مونرو ملجأ للهروب من الانهيار واليأس وسوء فهم أسرار جمالها وفتنتها، وهاهي تأملاتها تصحح الصورة المشوهة التي اقترنت بحياتها، فالجميع عرف مارلين جسدا مثيرا ورمزا حيا لجمال يقطع الأنفاس، ولا يعرفون شيئا عن حساسيتها الداخلية ومأساتها الوجودية التي جعلتها تصارع يوميا الرغبة في الانتحار والخوف من الجنون . سنقف علي ملامح ذكائها الذي قادها إلي الجحيم حين دفعها إلي الجري وراء محاولة فهم حقيقة كونها أسطورة تتأرجح بين الواقع واللاواقع، حيث تتساءل في إحدي الأوراق عن مكمن "المرأة اللغز"، ما الذي يمكنه تحويل إنسان إلي أسطورة؟ هل مسألة التميز الشخصي في الكاريزما الاستثنائية أم في الفكر أم في القوة أم في الجمال؟ وهو نفس الذكاء الذي جعلها تستجير بالقراءة لتسعفها علي تجاوز عقدها ومصيرها المأساوي، بحثا عن توازن مفقود وحب مستحيل . نقرأ في "شذرات": "أنا دوما وحيدة مهما حدث"، حتي أثناء التصوير كانت تخشي الكاميرا ويستولي عليها الاضطراب، ما جعلها تتلقي دروسا علي يد لي ستراسبيرج الذي ساعدها في التغلب جزئيا علي اضطرابها، ولكنها في إحدي رسائلها إليه تعترف بأنها لا تزال ضائعة: "أقصد أنني لا أستطيع أن أجمع ذاتي، ربما لأن كل شيء يفعل ويسير ضد قدرتي علي التركيز، أي أن كل ما نفعله أو نعيشه يستحيل تحقيقه". من هنا كانت مارلين مونرو منذورة للشقاء، تحيا حياتها خائفة، قلقة، مضطربة، ممزقة، بقدر ما كانت فريسة إحساس مرعب يطاردها، جعلها تقف علي حافة الجنون أو تتمني الموت. في هذا الكتاب الكاشف، تطالعنا أيضا رسالة مارلين إلي الدكتور رالف جرينسون، المحلل النفساني الذي عاشت معه علاقة تحليلية عاصفة، وكان هو آخر من رآها حية ورآها ميتة، في هذه الرسالة تحدثه عن إقامتها القاسية في مشفي للأمراض النفسية، وعن قراءتها لمراسلات فرويد، منتقدة طريقة معاملة النزلاء وكانت المشفي بمثابة سجن، كتبت: "لقد استجوبوني بعد أن وضعوني في محبس، لقد وجدت غياب الروح الإنسانية هذا أكثر من وحشي. لقد سألوني: لماذا لم أكن مرتاحة هنا؟ كل المنافذ كانت مغلقة وخاضعة للمفاتيح، والشبابيك الحديدية في كل مكان، فأجبتهم: يجب أن أكون مجنونة لكي أحب أن أكون هنا". يأتينا صوت مارلين من وراء القبر ليصحح صورتها الكاريكاتورية ويجعل أسطورتها تكتسي لحما بشريا إنسانيا، ينطوي علي الألم والجراح التي لا سبيل إلي شفائها، وبذلك تستطيع الكتابة الحميمية بعد 50 عاما علي رحيلها، أن تحدث تغييرا في نفوسنا ومتخيلنا المتصل بالفاتنة التي طالما نقلتنا إلي فضاء الحلم. أخيرا تغيرت الصورة النمطية واستعادت مارلين بعفوية وهدوء روحها إلي جانب جسدها واكتملت صورتها البشرية.