في أوائل السبعينيات علي ما أذكر تردد في جنبات صالة المسرح كلمات: «الفراولة.. بتاع الفراولة آه.. آه.. يا فراولة»، كان ذلك في ألمانيا والريس متقال ذو الزي المميز يتمايل دورانيا ويتلاعب بالربابة التاريخية خلف رأسه، ومعه جوقة تمثل أوركسترا فلها روموني صعيدي في بلد لوفيج فان بيتهوفن عملاق الأعمال الموسيقية الخالدة: سيمفوني، كونشرتو، سوناتا.. وغيرها، ليلتها شاهد الألمان الأرغول ذا الثلاثة أمتار طولاً يصدر نغمًا ربما كان من رتبة الباص، بمصاحبة طبلة تنوب عن كذا درامز، وبمشاركة الجوقة المذكورة ممثلة في دستة رجال أشداء يرتدون جلاليب فضفاضة مع عمائم ناصعة البياض ضمن جو شد انتباه الحضور: الكلمات والأصوات والأزياء وتعبيرات الوجوه وحركات نجوم الفرقة، كان البعض يصفق طربا والبعض الآخر يضحك إعجابا، والأخ متقال «يجود» (بالشدة علي الواو) والرفاق دائرون علي الخشبة التي تكاد تهتز تحت ضغط الأجسام والأصوات وربما الكلمات و«الخبطات». بعدها ولعدة سنوات ظل نغم: الفراولة.. يتردد في أذني كلما تذكرت الأخوة متقال أو شاهدت أرغولا أو حتي سمعت «نايا» وبعدها.. وبمرور الألحان وظهور نماذج الكباتن: أحمد عدوية وكتكوت الأمير وحسن الأسمر وحتي نوعيات الموهوبين: عمدة وبعرور وكاريكا، إلي أن وصلنا إلي الإخوة الكرام: عبدالباسط حمودة وشعبان عبدالرحيم والدكتور «هوبة» (مبدع أغنية: حجرين ع الشيشة).. بمرور ذلك كله نسيت الفراولة ومتقال وأصحابه.. حتي عادت كلمة الفراولة إلي الظهور بالحاح.. حيث ترددت كثيرا حتي في غير موسم نضوجها.. في زمن أبوالليف مثلا. ذات يوم سألني بائع الخضار هامسا: «ما تعرفش أجيب الفراولة منين»؟ ربما لأنه يعرف أن ابني الكبير صيدلي «هذا ما فهمته بعدها».. لكني ساعتها قلت باستغراب: «ماعندك بياعين الفاكهة علي بعد أمتار»، وضحك الشاب ناظرا تجاهي بما يعني: «إنت مش عارف حاجة». بعدها أيضا اعتادت الأذن سماع اسم الفاكهة.. بين شباب يافع يبشر بمستقبل زاهر: «الفراولة.. الفراولة»، لكنها هذه المرة مسبوقة بكلمة قرص.. «قرص فراولة»! هو إذن اسم يطلق علي مخدر يذهب بالعقل ويدمر كالعادة خلايا المخ.. بدأ بسعر خمسة جنيهات لقرص ووصل مع التخفيضات والعروض وأزمة الاقتصاد العالمي إلي ثلاثة (القرص وليس الكيلو) والإقبال يتزايد حسبما يتضح من تجمعات الشباب المذكور علي النواصي وتقاطعات الشوارع الرئيسية وكما يلاحظ المارة في شوارع طيبة ودهان وحامد نصر في كامب شيزار كما في غيرها من شوارع وأحياء بالإسكندرية، وربما في مناطق أخري عديدة، حيث ينشط البيع والتداول ومن ثم التعاطي والتوهان ضمن تسارع يدعو للفخر والإعجاب ويصل رجال الشرطة قبلها يكون مندوبو المبيعات قد تبخروا ضمن ممارسة اختفاء مسبق ذكي وسريع.. ثم العودة للنواصي والزبائن والعرض مستمر علنا نهارا جهارا والدفع شرحه. ومع الفراولة وبمبدأ الصفقة (whole package) يجري بيع أصناف أخري من المخدرات عجزت عن معرفة الاسم العلمي أو «الشوارعي» لها.. ربما تحمل أسماء دلع أخري لكن الواضح أن بيعها يتم ملفوفة في ورق سوليفان «زيادة في النظافة والنقاء وتطبيق مبادئ الصحة والأمان، مع احترام الزبون وتقدير ذوقه الراقي بالطبع»، تحت سقف من سؤال مكرر: كيف يعرف الباشمهندس بياع الصنف أن الشرطة في الطريق، كي يهرب قبل وصولها.. هل لدينا نوع من الناضورجية أبناء الباطنية وأحفاد جبل ناعسة؟، وهل وصل الأمر لقيام الباعة بممارسة نشاطهم ظهرا وأمام المارة وتحت أنظار السكان.. مرة أخري علنا نهارا وليلا؟! البيع والتعاطي، التداول والتوزيع ومع ترويع الفتيات. أحيانا يتكرر بالمثل سؤال ساذج يقول: العيال دي مالهاش أهل؟ وهو تساؤل لا محل له من الفهم.. حيث إن هذا الشبل من ذاك الأسد.. كما يقال.. وحيث إن الأمور تاهت وساحت والأوضاع انقلبت «وانهبلت» والمهم المكسب السريع ولا يهم الحلال والحرام، ولا أهمية للأخلاق أو الخجل والحياء أو تعبيرات مثل: الناس، الأهل، التعليم، العقاب، الشرف، العمل.. إلخ، هذا وأصبح من المعتاد أن تسمع غصبًا من موبايل صاخب أو ميكروفون صارخ أغنية تقول: «أنا مسطول وفرحان.. من غير بانجو أنا عدمان». هكذا تحول عرض الريس متقال إلي عرض من نوع آخر لا علاقة له بفن شعبي أو فاكهة صيفي، ومن ألمانيا السبعينيات إلي أقراص التقاطعات.. عادت الفراولة إلي الظهور كي نتغني مع شباب الضياع «الفراولة.. بتاع الفراولة.. آه آه يا فراولة» وكي نشكو مع الآخرين.. ولا من مجيب.