لم يعد يمر أسبوع دون أن تتفجر فيه مشكلة تعكس حجم الهوة بين الحكومة وقطاعات من الشعب، ودون أن يفهم فيه اتساع الفجوة بين كلام الحكومة ووزرائها وبين الحقائق علي أرض الواقع وانعدام الثقة بين قطاعات من المواطنين وبين الحكومة. مرة أخري، أعود للكتابة عن مشكلة المقطورات بعدما انشغلنا طوال الأسبوع باعتراض أصحاب وسائقي المقطورات علي زيادة الضرائب رغم النفي المتكرر من جانب رئيس الوزراء ووزير المالية ومسئولين آخرين لأي زيادة أو أعباء ضريبية علي المقطورات أو سائقيها. إنه نموذج يعكس إلي أي مدي صار الناس لا يصدقون التصريحات الرسمية حتي لو تعلق الأمر بمعلومات أو قرارات أو إجراءات لا يمكن إنكارها، أو إخفاؤها، أو "الطرمخة" عليها. الطبيعي أن تري الحكومة أن الدنيا ربيع والجو بديع وتطالب بالتقفيل علي كل المواضيع التي تحمل انتقادات لإدارتها أو السياسات الوزارية، وفي المقابل طبيعي أيضاً أن يجد الناس أن "حلاوة شمسنا وخفة ضلنا والجو عندنا ربيع طول السنة" مجرد كلام يصلح للأغاني والطبل والزمر والتهليل لأن تلك الحلاوة والخفة والربيع في مصر لا نراها إلا نادراً والجو عندنا إما برد قارس أو حر لافح. وطبيعي أيضاً أن تقر الحكومة بمتاعب المواطنين وقسوة الحياة عليهم مع معايرتهم بأن أحوالهم كان من الممكن أن تكون أسوأ لو لم تكن تلك الحكومة هي حكومتهم ولولا جهود وزرائها وسهرهم الليالي من أجل العمل علي تحقيق الرفاهية للشعب، وصار من الأمور التراثية أن يردد رجال الحكومة مقولة أن المشاكل موجودة في كل مكان والفقر منتشر في العالم والتضخم موجود في أوروبا والدول المتقدمة والعشوائية منتشرة أيضا في الصومال والدروس الخصوصية اختراع آسيوي قديم ورد إلي مصر مع غزو التتار وأن الفساد أتي إلينا مع الهكسوس الفاسدين وحينما هزمهم أحمس ماتوا وانتهوا ولم ينته الفساد. كل هذا طبيعي و"عادي خالص"، لكن غير العادي أن يردد المواطن مثلاً أن الحكومة فرضت ضرائب جديدة دون أن يكون قرار صدر بذلك، أو أن تنكر الحكومة زيادة في الضرائب إذا ما كان قرار الزيادة صدر بالفعل. علي الجانب الآخر ربط أصحاب وسائقو المقطورات قضيتهم بموضوع إنهاء العمل بمقطوراتهم نهائياً وتحويلها إلي تريلات علي أساس أن يكون الإضراب "بالمرة" ولأنهم سوف يضربون عن العمل وسيتوقفون عن حمل وشحن ونقل البضائع عندما يقترب الموعد النهائي لمنع تسيير المقطورات في الشوارع نهاية العام المقبل، علماً بأن قانون المرور الجديد والذي لم يعد جديداً كان قد منح المقطورات مهلة انتهت فتم التمديد لفترة انتهت ثم جري التمديد مجدداً لفترة لم تنته بعد، ومن دروس التاريخ علمنا أننا نجيد التمديد بل في بعض الأحيان ندمنه. وفي شأن قضية المقطورات لاحظنا مع كل تمديد، يقال إنها المرة الأخيرة، ولكن نحن أيضا نعلم جميعاً أن كلمة الحكومة مثل كلمة حنفي تماماً لا يمكن أن تنزل الأرض أبداً لكن يمكن أن تنزل "المرة دي"، وأنها، أي كلمة الحكومة، لن تنزل بعدها أبداً أبداً، وأطيب التحيات للسفينة العملاقة "نورماندي تو". باختصار لأن القانون لا يطبق علي الجميع في مصر، وإنما في بعض الأحيان وفقاً لمعايير تتعلق بنوعية الجهة أو الجهات أو الشخص أو الأشخاص الذين وقعوا تحت طائلته فإن قطاعات عريضة من الشعب وجدت أنها يمكن أن تحل مشاكلها بطرقها الخاصة، وهؤلاء دائماً لا يعتقدون أن الهدف الأساسي للحكومة، كما في دول العالم المتقدم، هو تفادي تصدير مشاكل للمواطن أو حلها إذا نشأت بالفعل. لدي أعداد غير قليلة من الشعب قناعات بأن الحكومة لا يأتي من ورائها خير، وأن مهمة بعض الوزراء هي العكننة علي خلق الله وافتعال المشاكل مع الشعب والبحث عن منغصات تجعل الهروب والموت علي سواحل أوروبا أهون وأسهل من العيش تحت رحمة الحكومة وحنانها. هنا لا فارق كبير بين مشكلة أصحاب وسائقي المقطورات وبين موظفي الحكومة الذين ينظمون علي فترات وقفات اعتصام أو إضرابات احتجاجية أو عمال المصانع والشركات التي تمت خصخصتها أو حتي سكان منازل ماسبيرو الذين طردوا من بيوتهم الآيلة للسقوط وهم غاضبون لأنهم لا يصدقون أنهم خرجوا حفاظاً علي حياتهم وإنما لأن الحكومة باعت الأراضي لرجال أعمال ومستثمرين. الكل في الهم سواء وكلمة الحكومة دائماً واحدة ولا تنزل الأرض أبداً حتي وإن "نزلت" هذه المرة.. وكل مرة كما هو حال حنفي.