تجد ما تتذكره عن فترة من حياتك قليلا وليس بالقدر الكافي الذي يرضيك ويناسب طول الفترة أو احتشادها بأحداث كثيرة. ربما مع تركيزك تتذكر أحداثا أخري، لكنك تظل تشعر أنها غير كافية، وهناك الكثير الذي نسيته وهناك أشياء أخري طواها النسيان. وتتذكر من هم قادرون علي استدعاء ما عاشوه بتفاصيل كثيرة ومتعددة حتي تظن أنهم لا يعرفون النسيان. خاصة لو كانوا كبارًا في السن، فهؤلاء تراهم خسروا معارك كثيرة مع صحتهم أو مع قدرتهم علي الحركة لكن ما زالوا ينتصرون في معارك الذاكرة. بالطبع لا يتذكرون كل ما عاشوه لكن علي الأقل مازالوا يمتلكون ناصية أبرز الأحداث وأهمها ويتجولون فيها براحتهم، قد ينسون تاريخ يوم أو اسم شخص إلا أن الحدث مازال في يدهم، وحتي لو كان هناك إضافات - وهذا طبيعي بحكم السن - فإن تلك الإضافات أشبه بهوامش علي ما يتذكرونه ويستطيعون إثبات حدوثه. تستطيع أن تري وتسمع نماذج من هذه النوعية من الناس في البرامج التي تستضيف شخصا كشاهد علي العصر. لكن دهشتك ستخفت تدريجيا من ذاكرتهم حينما تبدأ في التفكير في أنهم كانوا في مواقع مهمة وتعاملوا مع كل ما عاشوه علي أنه جزء من تاريخ سيكتبونه أو سيسألهم أو يسائلهم أحد عنه. وفي المقابل يزداد إعجابك بالأشخاص العاديين البعيدين عن أي مواقع مهمة الذين تجدهم استغرقوا في حكاية ما عاشوه دون أن تمل. وحينما تسألهم عن فترة في حياتهم يبدون لك كأنهم يسافرون في الزمن ويصلون إلي تلك الفترة كأي مسافر يتمهل قليلا في البداية ثم يسترسل في الحكي عن تلك الفترة. وتحس أن حياتهم آثار محفورة داخلهم بأفراحها وأتراحها كما يقال، وأنها بالنسبة لهم حياة واحدة يجب ألا يفرطوا فيها. تعجبك قدرتهم علي التذكر لكنك تري أنهم ليسوا القاعدة ولا يقدر الجميع علي أن يكونوا مثلهم، لكن هناك نوعاً آخر من الناس لا يقلقون من نسيانهم شيئا في الماضي. فهذا من طبيعة الإنسان ويعرفون أن الذاكرة ليست خادمة لديهم وطوع بنانهم وليست وعاءً يملأ بالأحداث. ويعرفون أن هناك لحظات نادرة وتأتي خطفا تنير منطقة من الذاكرة وتظهر لهم أحداث لم ينشغلوا بها من قبل، وتجذب إليها أحداثا أخري من فترات زمنية متباينة ومتباعدة، وتتكشف لهم علاقات ما أو معاني تضرب بعمق فيما عاشوه. لحظات نادرة لكنها غنية بما تعجز الكلمات عن التعبير عنه. قد يكون سببها كلمة سمعوها صدفة أو مشهد في فيلم أو جملة في كتاب أو لوحة شدتهم إليها. أسباب متنوعة ولا تحصي قد تكون باتساع كل ما لا تتوقعه، لكن معظمها قد لا يكون لها علاقة مباشرة بما يضاء في ذاكرتك وتكون علاقاتها أعمق وأبعد مما يستطيع وعيك أن يدركه لحظتها. وكثيرون يروحون في تلك اللحظات النادرة لمدة لحظات أيضا ثم ينصرفون إلي أعمالهم أو إلي ما يرونه الأهم، مهملين غني تلك اللحظات الذي لا يخص أحدا غيرهم ولا يستطيع أن يساعد أحدا غيرهم. والشرط الوحيد لكي تؤثر فيك أن تصدق أهمية ما يظهر لك في تلك اللحظات، وأن تحاول توفير الوقت لتأملها وللاستغراق فيها دون تعجل. وأن تقاوم تلك الرغبة في السيطرة سريعا عليها. تلك اللحظات ترسل إليك الكثير من الرسائل التي قد تعينك علي فهم الكثير مما مضي واستبصار الكثير فيما تعيشه الآن وما سيأتي، وتعجلك في قراءة وفهم تلك الرسائل بكل معانيها يفسدها ويضيع عليك الكثير من جوانبها. بل قد يوهمك تعجلك في قراءة تلك اللحظات النادرة أنك قبضت علي المعني، ولا تنتبه إلي أنك وصلت فقط إلي القشور وفقدت في المقابل الكثير من المعاني الأهم.