كتب مارتن كور شهدت الأسابيع القليلة الماضية ظهور فوضي العملات العالمية، الأمر الذي يشكل تهديدا جديدا لآفاق الانتعاش الاقتصادي. هذه الفوضي، التي أسمتها وسائل الإعلام بل وعدد من القادة السياسيين "حرب العملات" نشأت جراء اتخاذ بعض الدول الكبري سلسلة من التدابير الهادفة لخفض قيمة عملاتها بغية تحقيق مزايا تجارية خاصة. فالمعروف أنه إذا خفّضت دولة ما سعر عملتها، فستكون أسعار صادراتها أرخص للدول التي تشتريها منها، ما يودي إلي زيادة الطلب عليها وتشجيع الإنتاج المحلي وتحسين الميزن التجاري. والمشكلة هي أن الدول الأخري التي تعاني من هذا الإجراء قد تنتقم بدورها بخفض قيمة عملاتها أو بوقف الواردات الأرخص من خلال رفع الرسوم الجمركية أو حتي حظرها تماما. وهكذا ينشأ سباق "التخفيض التنافسي" علي غرار ما حدث في الثلاثينيات، وهو ما يمكن أن يتسبب في انكماش التجارة العالمية والركود. هذا ويعتبر الوضع الحالي وضعا معقدا للغاية وينطوي علي ما لا يقل عن ثلاث قضايا مترابطة فيما بينها. أولا، تتهم الولاياتالمتحدة حكومة بكين بالحفاظ علي عملتها اليوان علي مستوي منخفض وبصورة مصطنعة، مدعية أن هذا هو السبب وراء عجزها التجاري الهائل مع الصين. وهناك مشروع قانون معروض علي الكونجرس الامريكي لفرض رسوم إضافية علي المنتجات الصينية. ومن جانبها، ترد الصين بأن مثل هذا الاجراء سيكون مخالفا لقواعد منظمة التجارة العالمية، وأن ارتفاعا مفاجئا حادا في قيمة اليوان سيكون كارثيا بالنسبة لصناعات التصدير ولن يحل مشكلة العجز الأمريكي. ففي الواقع، يتوقع منتقدو بنك الاحتياطي الفيدرالي أن جزءا كبيرا من مبلغ 600 مليار دولار المذكور لن يبقي في الولاياتالمتحدة (ومن ثم سيكون لها آثارا إيجابية محدودة علي الإنتعاش الاقتصادي الأمريكي) وإنما سيتسرب إلي الخارج. مثل هذه الموجات من "الأموال الساخنة" كانت في الماضي موضع ترحيب من جانب البلدان المتلقية لها. لكن العديد من الدول النامية قد تعلمت الآن، بعد معاناة شاقة، أن تدفقات رؤوس الأموال المفاجئة والكبيرة يمكن أن تتسبب في مشاكل خطيرة، مثل : يؤدي تدفق رؤوس الأموال إلي فوائض مالية في الدولة المتلقية لها، وبالتالي إلي زيادة الضغط علي أسعار المواد الاستهلاكية، مع تأجيج "فقاعات الأصول" أو الارتفاعات الحادة في أسعار السكن وغيره من الممتلكات وسوق الأوراق المالية. هذه الفقاعات ستنفجر عاجلا أم آجلا، بأضرارا هائلة. يخلق التدفق الكبير للأموال الأجنبية ضغوطا متنامية علي عملة الدول المتلقية، ليرفع قيمتها مقابل العملات الأخري وبنسبة كبيرة. فإما تتدخل السلطات المالية في السوق من خلال شراء فائض الأموال الأجنبية (فيما يعرف باسم "التعقيم")، وبالتالي تتراكم احتياطيات النقد الأجنبي، أو السماح للعملة الوطنية بالارتفاع، ما سوف يكون له تأثيرات سلبية علي صادرات الدولة. تتسبب تدفقات رؤوس الأموال المفاجئة في تدفقات مساوية لرؤوس الأموال ولكن في الاتجاه المعاكس أي إلي الخارج، لدي تغير الظروف العالمية كما بينت الأزمة الآسيوية في أواخر التسعينيات. ويمكن لهذا أن يسبب اضطرابات اقتصادية بما فيها انخفاض حاد في قيمة العملة ومشاكل قوية في خدمة القرض، وصعوبات جمة في ميزان المدفوعات وكذلك الركود الاقتصادي. ثالثا، فرضت بعض الدول النامية ضوابط رأسمال لإبطاء التدفقات الضخمة من رؤوس الأموال الأجنبية. فيقدر معهد التمويل الدولي أن حجما ضخما من رؤوس الأموال الأمريكية قدره 825 مليار دولار سوف يتدفق إلي الدول النامية هذا العام، بزيادة قدرها 42 في المائة مقارنة بالعام الماضي. في غضون ذلك، ضاعفت البرازيل ثلاث مرات قيمة الضريبة المفروضة علي الأجانب الذين يشترون سنداتها المحلية، وفرضت تايلاند ضريبة بنسبة 15 في المائة علي الفوائد وأرباح رأس المال التي يحصل عليها المستثمرون الأجانب نتيجة التداول في السندات التايلاندية، في حين حذرت كوريا الجنوبية من فرض قيود جديدة علي التدفقات، والطلب من البنوك عدم الإقراض بعملات أجنبية. وأخيرا، هناك مخاوف من أنه إذا لم تحل قضية فوضي العملة أو حرب العملات قريبا، فيواجه العالم تهديد الحمائية التجارية سواء علي الشكل القديم للرسوم الجمركية الإضافية، أو في شكل جديد علي هيئة تنافس علي خفض قيمة العملات. وعلاوة علي ذلك، يمكن أن يزيد الضخ الكمي الأمريكي من المضاربات المحلية سعيا لتحقيق الربح، وهو ما يمكن أن يزعزع استقرار البلدان المتلقية لرؤوس الأموال بل والاقتصاد العالمي برمته. * المدير التنفيذى لمركز الجنوب نقلا عن وكالة انتر بريس سيرفيس