علي الرغم من أن البوسطة القديمة لا تبعد عنهم سوي دقائق قليلة فإنها صارت ماضيا بعيدا يترحمون عليه. وعلي الرغم من ان معاشاتهم انتقلت إلي مكتب الحدائق من ثلاثة شهور فقط، فقد صار ثقيلا علي قلوبهم وهم يتطلعون إلي الشبابيك المغلقة طول فترة وجودهم. قد ينفتح شباك لتنفض امرأة ملاءة أو فوطة لكنها سرعان ما تغلقه مختلسة النظرات إليهم. توقع عدد منهم أن تفتح تلك الشبابيك بمرور الوقت. مازالوا غرباء عن هذا الشارع. لم يألف الناس وجودهم. وليست كل الشوارع متشابهة هناك شارع تدخله فتشعر انك في بيتك فورا ويعاملك سكانه كأنك جار لهم منذ سنوات، وشارع آخر يحتاج إلي وقت حتي يعرف انك لست مصدر خطر، وثالث- وتمنوا ألا يكون هذا الشارع مثله- تجده مثل صحراء لا أحد فيها يناولك شربة ماء. ورغم أن شارع البوسطة القديمة من النوع الأول لكنهم كانوا يتسابقون في تضخيم صفاته ليصير نوعا فريدا لن يتكرر. ويتسابقون في وصف كيف كان الماء لا ينقطع عنهم، ولا أحد يتضايق من طرقهم علي الشبابيك وتناول الزجاجات منهم لملئها، ويتبادلون معهم الأحاديث ويطمئنون علي صحتهم، ويحتفظون لهم بنصيبهم من أضحيات العيد والنذور التي يوفون بها. يتذكرون أسماء سكان الشارع وكرمهم ويستغرقون في قراءة الفاتحة علي المتوفين منهم. وقد يتصادف أن تري احدهم واقفا أمام شباك مغلق وهو فاتح كفيه يقرأ الفاتحة فيبدو لك في وقفته كأنه يتوجه ناحية القبلة، وما إن ينتهي يشير بيده باستهانة نحو الشباك ويبتسم الجالسون ويصيح أحدهم " دنيا ". في نهاية الشارع كانت توجد حنفية ماء. أعلاها ثبتت يافطة تطلب ممن يشرب الدعاء لصاحبها. وعندما يتباطأ من عليه الدور في ملء زجاجات الماء البلاستيكية يحثونه علي الإسراع. ويظل وهو ينهض من مكانه فوق الرصيف يشكو من آلام ساقية ويترحم علي الشارع القديم. وأحيانا يتبرع أحدهم بالذهاب معه ليسنده فيتظاهر الجالسون بالقلق ويرجون منهما عدم التمادي في تبادل الحكايات أثناء سيرهما وأن يعودا قبل أن يموتوا من العطش. الشهر الماضي وافق الموظفون في مكتب الحدائق علي الاحتفاظ لهم بالزجاجات الثلاث حتي موعد مجيئهم. واستبشر الجمع خيرا فها هو شيء من البوسطة القديمة امتد معهم إلي هذا الشارع المغلقة شبابيكه. ومن يعلم فقد يصير الشارعان متشابهين في النهاية في كل شيء. وينتهي إحساسهم بأنهم انتقلوا إلي صحراء. عندما أتوا اليوم ظل أحدهم واقفا داخل البوسطه حاملا زجاجتين وينتظر الثالثة. نظر موظف أسفل مكتبه والمكاتب الأخري ثم أكد له أنه لا توجد سوي اثنتين. وعندما وجد الرجل ينظر ناحية الزجاجات الممتلئة المركونة في أحد الأركان قال له الموظف " دي أزايزنا " ثم اتجه إليها وناوله واحدة منها " كده معاك تلاته " وطلب منه ألا يترك الزجاجات بعد ذلك في البوسطة. ابتسم له الرجل وهمّ بالكلام لكن لمح موظفة تشير له بيديها كأنها تنصحه بالسكوت والخروج. وحينما أتي دوره ليقبض المعاش همست له بأن يأخذوا الزجاجات معهم هذا الشهر حتي يهدأ زميلها ووعدته بأنهم سيتركونها المرة القادمة. واقترحت عليه وهي تعطيه الفكة بقية معاشه بأن يرقموا الزجاجات بقلم فلوماستر حتي يميزوها عن أزايز البوسطة. ابتسم الجمع حينما عرفوا نصيحة الموظفة. وصاح من عليه الدور الأخير في قبض المعاش " حاخدها معايا وحاجيبها مليانة " وأكدوا عليه متظاهرين بالجدية "وما تنساش ترقمها". بدأ عدد منهم في التفكير بصوت عال بكتابة توكيل لابنه أو أحد أقربائه ليقبض المعاش بدلا منه. استصعبوا مشوار إتمام إجراءات التوكيل. واضطرارهم إلي الذهاب مرات كثيرة لو عطل موظف الأوراق أو كان في إجازة. مشاوير لم يفكروا فيها من قبل بدت مثل عقاب سيفرضونه علي أنفسهم. وستكون النتيجة افتقادهم تجمعهم أمام البوسطه. صحيح أنهم تحدثوا كثيرا من قبل عن ضرورة الالتقاء في أماكن أخري. لكن الشهر يمر وكل واحد لديه عذره. وفي يوم قبض المعاش يتحدثون عن الأيام التي لم تعد فيها بركة وتمر في لمح البصر، وأنهم كلما هموا بالتزاور يعوقهم شيء أو يشتد عليهم المرض. انقضي الوقت في الحديث عن إجراءات التوكيل. أجلوا قرارهم حسم موضوع التوكيل ليفكروا بروية وليمنحوا هذا الشارع فرصة أخري. سكب أخر من تبقي منهم الماء المتبقية في الزجاجات. ورأي أنه تسرع في وعدهم بإحضارها الشهر القادم ممتلئة. لا ضرورة إلي أن يثقل علي نفسه. يكفيه عبء قطع المسافة من بيته إلي البوسطة. ويمكنه أن يملأها من الحنفية الموجودة في هذا الشارع. كل ما عليه أن يستيقظ مبكرا عكس عادته حتي يكون في استقبالهم بالزجاجات، وفي نفس الوقت سيكون أول من سيقبض المعاش. لمح شباكا من شبابيك الأدوار الأرضية ينفتح. فكر في أن يوصي ابنه الكبير بإحضار الزجاجات ممتلئة بنفسه لو حدث له أي شيء. ويحذره من النسيان فهو لا يريد أن يلاقي ربه وفي عنقه دين لم يؤده، كما يرغب في أن يترحموا عليه كلما شربوا الماء.