افترضُ أن إدوارد رابون بطل فرانز كافكا في قصته الناقصة المليئة بالثغرات، استعدادات لحفل زفاف، كان له أن يقول في وصف حاله، ما قلته منذ يومين، وفي وصف حالي أيضاً: رِجْلاي ثابتتان، ويداي جامدتان، وجبهتي ساحة قتال، وعيناي لا تطول الجبهة. كان رابون شارداً حين رأي خنفساء كبيرة، ذكر خنفساء، أو دودة بيضاء علي ما يعتقد، في مقدمة المحل، وراء اللوح الزجاجي. مجموعة من القبعات الرجالي معروضة علي حوامل صغيرة. توقف أمام المحل للمشاهدة. كانت شفتاه مزمومتين بحزم تَحسُّباً لتفتيش مُفاجئ من طرف مجهول لا يسمح بغير الحزم في ساحة قتال. لو كانت عيناه تطول الجبهة. فكَّر أنه لم يكن طرفاً في المعركة، إلا أن القتال يقوم علي جسده، بموافقته أو دونها، ليس هناك فرق. قال أيضاً في نفسه: قبعتي ما زالت ملائمة للأجازات. فكَّر في هذا وهو يواصل المشي. إذا لم يقبله أحد بسبب قبعته، فماذا تفعل قبعة جديدة إذا كان عدم القبول دون شرط أو قيد هو مارد اليأس داخله. يتظاهر بأنها كانت مجرد حالة من النوم العميق، ثم يضغط ركبتيه في بطنه الضامرة، ويهمس بتعليمات قليلة إلي جسمه، كي يقف قريباً منه، وهو مُقوس حزين، وسيقول جسمه المقوس لجسمه الآخر: لستُ طرفاً في المعركة. سيدير الجسم الآخر كل شيء نيابة عنه، بكفاءة ويسر. بينما هو يرقد مسترخياً علي سرير، وستصله أنباء القتلي من الطرفين، والمواقع التالفة في جسده، التي لن يزورها بعد الآن، منطقة محظورة، منطقة ملغومة، أرض يباب. وصل رابون إلي قنطرة في نهاية شارع شديد الانحدار، يؤدي الشارع إلي ميدان صغير به محال تجارية مضاءة في جميع أركانه. في منتصف الميدان كان الضوء محجوباً بعض الشيء، وعند حافته كان هناك تمثال منخفض لرجل جالس يتأمل. وكانت الجموع تتحرك عبر الأضواء مثل مصاريع ضيقة. كانت بِرَك الماء تنشر بريقاً بعيداً وشاسعاً. وكان الميدان متغيراً بشكل مستمر. دفع رابون نفسه دفعاً داخل الميدان، وهو يتأرجح، ويفادي العربات المنطلقة كالرياح، يقفز من بلاطة رصيف جافة إلي أخري، وهو يحمل مظلته عالياً بيده، ليري كل شيء حوله. وأخيراً بجانب عمود نور في المكان المخصص لوقوف الترام، والذي بني علي قاعدة خرسانية مربعة صغيرة، توقف عن السير. قال في نفسه: ولكنهم في انتظاري. هل هم يسألون عن سبب غيابي الآن؟ لقد كتبتُ لها هذا الصباح فقط، ولم أكتب لها شيئاً علي الإطلاق طوال الأسبوع الماضي، وهي هناك. هل سيرون في النهاية أسباباً لغيابي؟ ربما أفكِّر بأن أنفجر فيهم غضباً، ولكنها ليست طريقتي، أو علي الأقل أعانق الجميع عند الوصول، ولكنَّ هذا شيئاً لا أفعله أيضاً، سأجعلهم يغضبون إذا حاولتُ تهدئتهم، آه لو استطعتُ إشعال غضبهم أثناء محاولتي لتهدئتهم. في تلك اللحظة مرت عربة مفتوحة الأبواب ببطء وراء المصباحين المضيئين في العربة، سيدتان، يمكنني أن أراهما جالستين علي مقاعد جلدية معتمة. واحدة كانت مستلقية إلي الوراء، وجهها محجوب وراء بيشتها، وظل قبعتها، والأخري كانت تجلس معتدلة القامة، وكانت قبعتها صغيرة، وعلي حوافها ريش رفيع. كل الجموع كانت تستطيع رؤيتها، شفتها السفلي مسحوبة بعض الشيء داخل فمها. حين اجتازتْ العربة رابون، ظهر بار في الخلفية كان محجوباً بسبب الحصان الذي يجر العربة، وكان هناك سائق العربة، يرتدي قبعة، ومعه صندوق كبير بشكل غير عادي. عبر رابون سريع المسافة التي شغلتها منذ لحظات عربة السيدتين، التي اتجهتْ نحو شارع ضيق بجانبه بيت صغير. كان رابون يتابع العربة بنظرته، وهو يسند مقبض مظلته علي كتفه. كان يضع إبهامه علي ضرسه من الخارج، ويضغط عليه، ليس لتثبيت ألماً، بل لإزالته. كانت حقيبته مسنودة إلي ساقه، وأحد فكيها مطروشاً علي الأرض. كانت العربات تجري مسرعة من شارع إلي آخر خلال الميدان. وكانت أجسام الخيول تطير أفقياً، وكأنها ألقيتْ في الهواء، والرءوس والأعناق تنبض بالإيقاع والعَرَق والجهد. المتسكعون العاطلون يقفون هنا وهناك، يضربون الحصي بعُصي صغيرة. وكانت هناك بين المباني المحيطة بالميدان، أبراج تصعد إلي السماء، وأعمدة رفيعة تحمل ساعات ثقيلة، وملصقات تعلن عن وسائل ترفيهية، بحروف متعددة الألوان. قال رابون بعد أن شمل نظرته البانورامية الميدان والشوارع والتفريعات والمباني: إنها لم تكن مستقيمة أبداً، مرئية بشكل غير واضح، وفمها واسع، وهنا بلا شك تبرز شفتها السفلي إلي الخارج، ومع هذا يقول عنها كثيرون: إنها تتمتع بعينين ساحرتين، لكنَّ تلك الأكمام، أنا لا أعرف كثيراً عن الملابس، لكنها أكمام واسعة عديمة الشكل.