سبق أن قلت إن علماء الاجتماع والأنثروبولوجي قد توصلوا إلي العديد من النظريات حول نشأة الدين في المجتمعات البدائية وقد جاءت نتائج تلك الدراسات والأبحاث متباينة ومختلفة فيما بينها وأن معظمها قد جانبها الصواب وفي ذلك يقول الدكتور عبدالباسط حسن: حلول كثير من المفكرين الاجتماعيين تفسير النشأة الأولي للدين ووضعت في ذلك نظريات متعددة غير أن أغلب ما قيل في هذا الصدد لا يقوم علي أساس وضعي ولا يعتمد علي استقراء الحقائق الدينية وتحليلها تحليلا علميا فضلا عن أن أغلب هذه النظريات تتخذ من المجتمعات البدائية المعاصرة مادة تعتمد عليها وهذه المجتمعات لا تمثل بالدقة المراحل الأولي للمجتمعات الإنسانية ويمكن تقسيم النظريات التي عرضت لنشأة الدين وفقا للاتجاهات الأربعة التالية: 1- الاتجاه الطبيعي: يري أصحابه أن الدين محاولة أولي من جانب العقل الإنساني لتفسير ظواهر الطبيعة وقد هداه إلي ذلك ما عليه الكون من تناسق وانتظام فنسب هذا التناسق والانتظام الكوني إلي قوة مستقلة عن البشر يخضع لها نظام العالم ويرجح ماكس موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول، وجلال الأبد ليس له انتهاء وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراه في الكون وهو الشمس التي تملأ الفضاء بالضياء فهي محورالأساطير والعقائد كما ثبت له من المقابلة بين اللغات واللهجات ويذهب موللر إلي أن الدين هو اللغة التي يعبر بها الإنسان عن هذا الإحساس الغامض الذي يأتيه عن طريق حواسه وقلبه والشعور الديني يعترف في بدايته بوجود عدة آلهة ولكن كلما توجه الشعور بالفرد لعبادة أحد الآلهة سرعان ما يصبح هذا الإله في نظره أقوي الآلهة جميعا فيتصف بصفات الآلهة الآخرين وإذا قيل لموللر إن «الأبد» أو اللانهائية معني لا توجد له كلمات في اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولي قال إن الإحساس بالمعاني يسبق اختراع الكلمات. وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع في لغاته كلمات لبعض الألوان ويذهب بعض المفكرين إلي أن الإنسان الأول أحس بضعفه أمام ظواهر الطبيعة ولذلك كان لابد له من سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعديل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس وليس أوفر الناس نصيبا من الحاسة الدينية أوفرهم نصيبا من الضعف الإنساني ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادا كلما ضعف ولا يضعف علي حسب نصيبه من الاعتقاد ومازال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة وذوو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة. كذلك فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل ولا أمام الناس في الاعتقاد أمامهم في الوهن والهزال. 2- الاتجاه الروحي: يذهب أصحابه إلي أن الديانات قامت في أساسها علي عبادة الأرواح فقد اهتدي الإنسان البدائي منذ القدم إلي فكرة الروح من تلك الحياة المزدوجة التي تجمع بين النوم واليقظة. فاعتقد أنه مكون من كائنين هما: الجسد والروح ونسب إلي الأخيرة منهما كل ما يصيبه من نجاح أو فشل وبذلك أصبح لزاما عليه أن يرضيها ويتقرب إليها وينزلها منزلة التقديس وعن هذه الأفكار انبثقت عبادة الأرواح، يقول الدكتور أحمد أبوزيد: ولقد استخدم «تايلور» اصطلاح «الأنيمزم» أي الاستحياء أو حيوية الطبيعة وحاول أن يفسر به الأصل في الاعتقاد بالأرباب. فالرجل البدائي في نظره يعتقد في تقمص الأرواح كل قوي الطبيعة ومظاهر الكون المختلفة إلي حد أنه يتصور هذه الظواهر والقوي المختلفة كما لو كانت كائنات مشخصة لها ذاتيتها وكيانها الفردي فكل ما في الكون من شموس وأقمار وأنهار ورياح ومطر ووديان وزلازل وبراكين وما إليها تعتبر عنده كائنات حية كالإنسان تماما لأن الأرواح والنفوس تملأ في نظره كل شيء أو «تسكن» في كل شيء بما في ذلك الأشياء التي نعتبرها نحن أجساما جامدة ومن هنا فإن هذه النفوس والأرواح تمنح خصائصها ومقوماتها الذاتية لتلك الأشياء المادية «راجع د.أحمد أبوزيد، نظرة البدائيين إلي الكون، ص54». للحديث بقية