هناك كثير وكثير من الأقوال التي قيلت حول أساس نشأة الدين، إلا أن من له خلفية معرفية بموضوع علم الأنثروبولوجي وعلم الاجتماع الديني، سيري وبصورة قاطعة أن معظم -وإن لم يكن كل- ما قيل مما سبق في المقال السابق حول نشأة الدين من قبل بعض الكتاب، ما هو إلا محض نظريات لبعض العلماء والمفكرين الغربيين، وسنري أن كل تلك النظريات قد تهاوت ولم تثبت أمام نقد الكثير من علماء آخرين قاموا بدراسة نشأة الدين بشكل أدق وأعمق كما سنري فيما يأتي. ولكن يبدو أن بعض الكتاب ليست لديهم فكرة عن النقد الذي وجه إلي تلك النظريات من قبل علماء آخرين، أو يبدو أن بعض الكتاب يعرفون ذلك لكنهم يغضون الطرف عنه لحاجة في نفس يعقوب، أو يبدو أن كتابنا في العالم العربي يكتفون بفكرة قرأوها هنا أو هناك أو نظرية سمعوا عنها هنا أو هناك، فاستهوتهم تلك الفكرة فبنوا أطروحاتهم الفكرية علي قصاصات فكرية ونظريات متناثرة هنا وهناك، دون التثبت من صحة تلك النظريات والأفكار أو خطئها، ودون إعمال العقل والنظر والاكتفاء بالتسليم، وذلك ما يدعو للدهشة والإحباط. إن نظريات وأبحاث ودراسات علماء الاجتماع والأنثروبولوجي حول نشأة الدين، التي أشرت إليها منذ قليل، قد تبين أن كل تلك النظريات لم تثبت أمام النقد وتهاوت جميعها بمعول أبحاث ودراسات ونظريات جديدة أجراها علماء آخرون، علي ما سيأتي بيانه في هذا المقال، بل أستطيع القول إن أبحاث ودراسات علماء الاجتماع حول نشأة الدين بين البشر، لم تصل وإلي الآن إلي حقيقة واحدة كاملة بشأن نشأة الدين، حتي وإن كان معظم هذه الدراسات والأبحاث قد اتفق علي الوظيفة الاجتماعية للدين، وأهمية الدين في الضبط والأمان الاجتماعي، إلا أن معظم هذه الدراسات والأبحاث لم تصل إلي حقيقة واحدة متكاملة حول نشأة الدين. ويرجع ذلك لأن علماء الاجتماع قاموا بدراسة هذا الموضوع المهم بصورة جزئية اقتصرت علي أناس بعينهم، في بيئة بعينها، وأيضا تجاهل بعض علماء الاجتماع للعلاقة بين هذا الكون والإنسان الذي يعيش فيه حينا من الدهر، هذه العلاقة التي أثارت في نفوس البشر ولا تزال تثير العديد من الأسئلة المزمنة والملحة حول الغاية من وجود الإنسان في هذه الدنيا، وكيفية مجيئه إليها، ومن أتي به؟، ولماذا أتي؟ وماذا بعد الموت؟ كل هذه الأسئلة المزمنة والملحة في النفس البشرية الواعية والمدركة، فلم يتم أخذ تلك العلاقة المثيرة لهذه الأسئلة في الاعتبار، مع العلم أن هذه الأسئلة المهمة والمزمنة والملحة التي تختلج في كل النفوس البشرية بلا استثناء علي مدار التاريخ الإنساني كله، فكان الدين هو المجيب الأول والوحيد عليها حتي هذه اللحظة. فكل الأديان سواء ما تسمي بالبشرية أو ما تسمي بالسماوية، حملت بين طيات نصوصها إجابات شبه واحدة علي هذه الأسئلة مهما اختلفت تصورات هذه الديانات للحقيقة الإلهية، إلا أنها اجتمعت علي إجابة واحدة تلخصت في: أن هناك قوة قاهرة هي التي أوجدت هذا الكون وأوجدتنا فيه لاختبارنا ومهما نعمل من خير أو شر سنجازي عليه بعد الموت، وسوف نفصل هذه المسألة في المقالات المقبلة. لقد شغل الدين البشرية طوال تاريخها الطويل وانشغلت به البشرية طوال تاريخها الطويل ولا تزال تنشغل به حتي هذه اللحظة، فقد لازم الدين كل المجتمعات البشرية منذ وجود الإنسان علي ظهر هذا الكوكب وبلا استثناء، وسيظل يلازمها حتي يرث الله الأرض ومن عليها، فما من جماعة بشرية وجدت في التاريخ إلا وكان لها دين ما من الأديان له صورة ما من الصور، ورغم اختلاف الجماعات البشرية في ألسنتها وثقافاتها وأوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتباعد مواقعها الجغرافية، إلا أن الدين يحتل مكانة مركزية ومحورية بين هذه الجماعات. ومن هذا المنطلق قام علماء الاجتماع والأنثروبولوجي بدراسة الظاهرة الدينية لدي الجماعات البشرية المختلفة للوقوف علي ماهية الدين، والوقوف علي أساس نشأته الأولي، والوقوف علي الوظائف الاجتماعية للدين وأهداف هذه الوظائف، وما هي الحاجات الإنسانية الملحة التي يقوم الدين بإشباعها لدي الإنسان؟ وهل هذه الحاجات تقتصر علي الجانب الاجتماعي فقط أم أنها تطال الجوانب الأخري النفسية والمعنوية والسياسية والاقتصادية؟ لكل هذه الأسباب وغيرها قام علماء الاجتماع والأنثروبولوجي بدراسة الظاهرة الدينية لدي المجتمعات البدائية، إلا أن هؤلاء العلماء قد اختلفوا فيما بينهم حول حقيقة الدين وحقيقة نشأته الأولي، فكل النظريات التي توصل إليها علماء الاجتماع والأنثروبولوجي قد تعرضت للنقد وثبت وجود الكثير من الأخطاء العلمية والكثير من القصور الذي اعتري تلك النظريات علي أيدي علماء آخرين في نفس المجال علي ما سنبينه لاحقا. للحديثة بقية