قرود هي أصل الإنسان، لا يثنينا مايكل ريوس أستاذ فلسفة البيولوجيا عن الانصياع لهذا الاختصار المخل المشاع عن نظرية تشارلز داروين فقط، بل يقدم لنا عبر ترجمة فتح الله الشيخ وأحمد السماحي المتخصصان في الكيمياء، الأدلة علي أن العلم لا يذهب هباء، وأن مشاكله وأخطاءه يمكن النظر إليها بطريقة فلسفية، ومن هنا سنستكشف مداخل نظرية التطور لدراسة علم المعرفة وعلم الأخلاق، ونتيقن من عمق جذور الإيمان في العالم الذي اتهم بنفي دور الرب. يقدم هذا الكتاب سيرة تحليلية تفسيرية لحياة وأفكار تشارلز داروين (1809 - 1882)، مادته مرهقة وتفصيلية بقدر ثراء نظرية التطور التي قلبت موازين الدنيا رأسا علي عقب، لكنه في كل الأحوال ممتع، يعدد ويفند مراحل التفكير الإبداعي لدي داروين، فإلي جوار العلم والفلسفة، يوظف مايكل ريوس في كتابه عن تشارلز داروين الكثير من الأدب، ويستشرف المجاز والاستعارة في كتابات صاحب "أصل الأنواع"، بل إن المؤلف يخبرنا وهو يعرض سيرة ذلك العالم، أن عبقريته كانت من النوع الإبداعي. يصف ريوس داروين في نشأته ب"طفل الثورة الصناعية" ليدلل علي أفكاره المبكرة في التحرر والتطور وتفضيل التغيير والأفكار التي تجلبها الآلات والمصانع ومناصرة أي شيء نقيض للمحافظة، وسنكتشف فيما بعد ما لهذه الخصوصية في نشأة داروين من أثر في تحديد منشأ الارتباط أو التعارض بين الدين والداروينية، فكثير من منتقدي تلك النظرية استندوا إلي أنها تتجاهل دور الخالق. من مدخل الأدب يتوصل ريوس إلي حقيقة مؤكدة تبدو غريبة وغير مصدقة، هي أن داروين لم يكن صاحب فكرة التطور، فقد سبقه إليها جده لأبيه إيراسيموس داروين، عبر أشعار نثرية بعنوان "زونوميا" تدور حول فكرة التطور، وما فعله داروين الصغير هو إعادة صياغتها في شكل علمي. للدين إلي جانب الأدب ظهور خاص في هذا الكتاب أيضا، حيث اهتم ريوس بموضوع المسيحية وعلاقتها بالداروينية، ويستنتج بأن "الداروينية هي طفل المسيحية"، وقد أفرد المؤلف في كتابه أكثر من فصل لمفهوم الرب في الداروينية، مؤكدا أن داروين ذلك العالم البيولوجي بالأساس، ظل علي الرغم من كل شيء مسيحيا مؤمنا ومتأثرا بنشأته اللاهوتية ومحتفظا بصداقته لرجال الدين، وأنه أجل مجال الكهنوت في مقابل الهوس بالعلوم والطبيعة، ولم يتبرأ منه، بل بدأ يتلاشي تدريجيا وبهدوء من قناعاته. ساق ريوس الحجج ليدلل علي فرضيته بأن ثمة ارتباطا بين المسيحية والداروينية، وأن الداروينية ابنة المسيحية غير الشرعية، والأفكار التطورية ذات صلة وثيقة بفهم أصول الدين، من هذه الحجج استعراض وجهات نظر تشارلز داروين نفسه الدينية، وكيف أنه كان يؤمن في البدء بالمدخل الحرفي للإنجيل، وأنه كان مثار سخرية البحارة أثناء رحلة "بيجيل" بسبب ذلك، لكن ما يركز عليه المؤلف أن معتقدات داروين المسيحية بدأت بالخفوت أثناء وجوده في رحلة السفينة، مما يعني أن "بيجيل" كانت نقطة فاصلة وفارقة في نشأة الفكر التطوري لدي داروين. وبالتالي أصبحت المعجزات الإنجيلية بالنسبة لداروين مثار شك وتعارض مع قوانين الطبيعة، لدرجة أنه قدم نفسه في سيرته التي كتبها في أخريات حياته علي أنه شخص متشكك في المعجزات، ومتجها أكثر نحو فهم غير حرفي لتاريخ الأرض، لكن يقول ريوس: "لا يجب أن نأخذ أيا من هذه الأمور علي أنها سبب في تحول داروين المفاجئ إلي الإلحاد"، والأكثر من هذا، يخبرنا المؤلف أنه بحلول منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر كان أفضل وصف لداروين أنه "ربوبي" (القائل بمذهب وجود الرب)، بل إن مذهب الربوبية كان هو موقفه أثناء كتابته ل"أصل الأنواع" التي يعرفها بأسلوب رقيق ودال بأنها رواية الأصول والتقدم والإنسان علي القمة، ويصل في النهاية إلي نتيجة أن نظرية التطور الداروينية لعبت دور الديانة الدنيوية، وتركت بصمتها علي الفكر المسيحي التقليدي، فكل ما جاء به داروين أنه لم يشك قط في أننا البشر جزء من عالم الحياة، وأننا تطورنا وبالضرورة لنفس الأسباب التي تطورت بها الحيوانات الأخري، وأن الخط الذي يفصل بين أقصي الارتقاء البشري الإنساني وبين أدني الانحطاط الوحشي رفيع للغاية. يحيلنا ريوس بعد ذلك إلي تتبع عدد وطبيعة من تقبل نظرية داروين، وكم منهم كانوا من رجال الدين، أما المفاجأة التي يفجرها المؤلف فهي اعترافه رغم كل ما سبق وساقه من أدلة علي إيمان داروين، بشكه شخصيا في أنه يمكن لأي إنسان أن يصبح داروينيا ومسيحيا في نفس الوقت، هكذا يتركنا ريوس حياري ، أسئلتنا قلقة عطشي للإجابات.