ثلاث نساء من ثلاثة أجيال يقدمهن هذا الفيلم الذي عرض مساء أمس الأول بقصر الإمارات الكبير ضمن مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، النساء الثلاث صنعن الفيلم، لكن مخرجه ليس واحدة منهن وإنما مخرج أمريكي شهير هو جوليان شنابل، والحكاية لكي تكون مفهومة أكثر هو أن جمهور هذا المهرجان انتظر هذا الفيلم الذي عرض في يوم المهرجان الأخير، ليري كيف يحكي المخرج الشهير حكاية ثلاث نساء فلسطينيات في فيلم روائي وليس وثائقيا. «ميرال» هو اسم الفيلم، وهو اسم البطلة التي أدت الدور الأكبر في الفيلم حين رأيناها من خلال الأحداث طفلة ثم فتاة مراهقة ثم طالبة متفوقة ومنغمسة في الانتفاضة الأولي للشعب الفلسطيني في بداية التسعينيات، إلي أن ترحل إلي إيطاليا لتكمل تعليمها الجامعي، ولتعمل هناك وتتفوق وتصبح إعلامية مرموقة علي الشاشات الإيطالية «شبكة الراي تحديدًا» لكنها لم تنس أنها نفسها هذه البنت التي ولدت في ظروف صعبة بعد نكبة فلسطين عام 1948 . وعاشت حياة بائسة في لحظات كثيرة لم ينقذها منها سوي امرأة أخري، بطلة من عائلة كبيرة، تعالت فوق طبقتها ووضعها الاجتماعي المتميز حين رأت أطفال بلدها الفقراء هائمين علي وجوههم في الطرقات بعد أن قتلت العصابات الصهيونية ذويهم في مذبحة قرية «دير ياسين» وهدمت القرية كلها، قررت هند الحسيني في نفس اللحظة أن تكون مسئولة عن هؤلاء البنات والأولاد الصغار، وأن تأويهم وترعاهم بكل ما تملك حتي تجد آخرين يساعدونها، وبدأت في نضال شاق من أجل تعليمهم، وتربيتهم، أنفقت كل ما ورثته عن أبيها الثري ولكنها تلقت مساعدات بعدها أتاحت لها تأسيس دار اسمتها «دار الطفل العربي» لإيواء أبناء وبنات الفلسطينيين الذين فقدوا أهاليهم ويفقدونهم تباعًا. فقد كانت إسرائيل مشغولة دائمًا بهدم قراهم ومنازلهم في سبيل «بناء» نفسها تحولت الدار إلي مؤسسة كبيرة وأبنية وفصول وحاولت «هند الحسيني» أو «ماما هند» كما كان الأولاد والبنات ينادونها أن تبعد تلاميذها عن العمل السياسي المباشر، كانت امرأة مثقفة تدرك أن ما يحميها هي ومن تأويهم من دخول قوات الجيش المحتل إلي المدرسة وإصدار قرارات هدم وتشريد للجميع هو إبعاد صغارها عن الانغماس في العمل المباشر عن ضرب الحجارة وعن ضرب البنادق. لقد أرسلت بنات المدرسة بعد أن كبرن إلي المخيمات لتعليم أبنائها وبناتها، وهي مدركة أن هذا الاحتكاك لابد وأن يغير الكثير من تفكير بناتها، إلا أنها كانت واضحة، فلن تستطيع إيواء من ينضم إلي مقاتلي الشوارع الفلسطينية حتي لا تهدم الدار علي الجميع، يطرح الفيلم هنا أساليب وطرقًا مختلفة لمعاني النضال والمقاومة من خلال كاميرات المخرج التي صورت الفيلم في مواقع الأحداث، القدس، الناصرة، وغيرها من المدن الفلسطينية التي حصل منتج الفيلم الأمريكي جون كيليك علي تصاريح بالتصوير فيها «بدون أن يرفض أحد هذا من السلطات الإسرائيلية» ليقدم لنا دراما يقف الإنسان أي المشاهد مثلي حائرًا أمامها بين الترحيب أو الرفض، فمن الصعب رفض منطق هند الحسيني هذه البطلة التي كشف عنها الفيلم والتي رأت أن ما يفيد جيش الأولاد والبنات الصغار أن يتعلموا جيدًا وأن يكونوا مسلحين فكريًا وإنسانيًا للتأثير في غيرهم وانتزاع حقوقهم العادلة، بينما يري غيرها أن المقاومة المسلحة للاستعمار الإسرائيلي هي الحل الوحيد، والقوة لا يردعها إلا القوة. لقد طرح الفيلم ضمن مسيرته المنهجين معا، ما فعلته الحسيني طوال حياتها، وما فعله أبناء الانتفاضة الأولي، وكيف اختلفوا مع بعضهم البعض، وكيف تعرضوا للتنكيل البشع بهم من قبل قوات الجيش الإسرائيلي، سار الفيلم مع الفكرتين، المقاومة بالعلم ورفض قتل المدنيين، والمقاومة بالسلاح من الحجر حتي كل الأسلحة الأخري، وتوقف عند زوايا نادرًا ما تطرحها الأفلام عن فلسطين مثل علاقات الحب أو الصداقة بين العرب والإسرائيليات أو العكس، وكذلك قدم علاقات الحب بين الفلسطينيين أنفسهم بأسلوب مختلف عن التناول الشرقي لهذه العلاقات، أو أسلوب المخرجين العرب في تقديم قصص الحب بين الفلسطينيين والتي تأتي عادة ضمن إطار أشمل يتناول القضية نفسها وما تحمله من وجه سياسي، هنا في علاقة الحب بين «ميرال» الطفلة التي انتحرت أمها ورباها خالها حسن المسلم المتدين الذي أدرك منذ البداية أن الحفاظ عليها، وعلي جميع من كانوا مثلها من البنات والأبناء، هو أهم المهام حتي يكبروا ويقرروا بأنفسهم مصائرهم. «ميرال» انضمت لفترة إلي الانتفاضة الأولي وارتبطت بعلاقة حب مع أحد قادتها «هاني» الذي غير رأيه ووافق علي مفاوضات واتفاق «أوسلو» فاتهم بالخيانة من زملائه، ثم اغتيل، ليدفع هذا فتاته إلي إدراك أن مصيرها يوشك أن يغادر محطة إرادتها، لو لم تقرر بنفسها ماذا تريد، وحين يموت الأب وتدرك أنه لم يكن أباها البيولوجي لا تهتز وأنما تشعر باليتم أكثر ومن جديد تساعدها تلك المرأة القلب، هند الحسيني، لتخبرها بأنها اختارتها لمنحة دراسية من مؤسسة إيطالية وهي مؤمنة بأنها ستتفوق برغم كل ما عانته من آلام، وسعيدة أي هند بتلميذتها حتي لو لم يقدر لها أن تراها مرة أخري.. كانت تصارع أيامها الأخيرة. فودعت «ميرال» التي ذهبت إلي أرض جديدة وتعلمت وصارعت كل المخاطر حتي تفوقت.. وصارت اسمًا مهما في هذا البلد الجديد.. ميرال هي في الحقيقة رولا جبريل، الإعلامية الإيطالية الفلسطينية الأصل، والتي رآها الجمهور المصري والعربي طوال شهر رمضان عام 2009 من خلال برنامج تليفزيوني قدمته بعنوان «باب الشمس» علي شاشة قناة «القاهرة والناس» التي انطلقت لأول مرة لمدة شهر رمضان وتوقفت بعده، وعادت في رمضان الماضي وأيضًا توقفت، لكننا كمشاهدين وإن سعدنا بالبرنامج وباسلوب رولا في طرح أسئلتها، فقد بقيت لدينا عدة أسئلة لم تجب في حينها هي عن زمن هذه الفتاة السمراء ذات المظهر المودرن والتي تتحدث العربية بإسلوب غريب.. وربما عجيب! ولماذا تُختار لتقديم برنامج في هذا الوقت.. لم يجب أحد عن الأسئلة في العام الماضي، لكن رولا هي صاحبة الكتاب الذي قدم المخرج هذا الفيلم عنه، وصاحبة السيناريو أيضًا الذي روت فيه بدقة قصتها كفلسطينية مع الحياة ومع الاحتلال، وربما كانت شخصيتها ومكانتها جزءًا مهمًا لتقديم فيلم يحمل ثلاث جنسيات في آن واحد هي فرنسا والهند وإيطاليا «أي الشركاء في إنتاجه» مع الأمريكي كيليك، ويحمل توقيع مخرج أمريكي كبير هو جوليان شنابل حكي كيف ظل يعاين قضيته علي الطبيعة لمدة خمسة أشهر قبل التصوير، أما الممثلات الرائعات جدًا فقد جئن من أماكن مختلفة، هند الحسيني قامت بدورها القديرة هيام عباس، الممثلة الفلسطينية التي تعيش بباريس، و«ميرال» هي الهندية فريته بنتو ممثلة فيلم «الأوسكار» في العام الماضي «سلام الفقراء» وياسمين المصري في دور أم ميرال وعمر متولي، الممثل المصري الأمريكي في دور الأب وغيرهم، إنه فيلم جدير بالمشاهدة والتأمل، فهو أحدث نسخة من رؤية السينما العالمية للقضية الفلسطينية، وهي رؤية تختلف عن رؤيتنا، «إذا ما كانت لنا رؤية واحدة» ولكنها تستحق التقدير والتنويه بأنها تعبر عن تقدم حقيقي في نظرة هؤلاء الذين انكوينا بتجاهلهم مرارًا.. متي وكيف.. ليست هذه هي القضية وإنما إن هذا حدث من الجانب الآخر.. وليس من جانبنا وهذا هو المكسب.. برغم كل شيء.