لاشك أن يوم 10 أكتوبر كان يوماً مهماً في تاريخ الصحافة.. إذ شهد اجتماعين متتاليين منفصلين يتعلقان بالممارسة الصحفية بشكل مباشر .. الأول في نقابة الصحفيين ودار حول معالجات قضايا الفتنة الطائفية، وسوف أعود إليه لاحقاً.. والثاني في المجلس الأعلي للقضاء وتناول المنع الذي تقرر لنقل جلسات المحاكم تليفزيونياً وإذاعياً.. وهذا ما أركز عليه اليوم. لقد سارعت جهات مختلفة في صدارتها المجلس الأعلي للصحافة ووزير الإعلام إلي تأييد القرار الذي أصدره السيد المستشار سري صيام رئيس المجلس الأعلي للقضاء، ولاشك أن المجتمع كان أدرك خطورة العبث الإعلامي الذي مورس في الفترة الأخيرة، لاسيما مع تصاعد وتيرة قضية «هشام/سوزان»، وتأثير ذلك علي القضاء ومساراته.. بحيث خشي الجميع فعليا من أن استقلال وسمعة القضاء يتعرضان لانتهاك حقيقي من ظواهر لم تكن متوقعة. وبالتأكيد، لا يوجد لدي سلطة القضاء أي نوع أو نية راغبة في فرض قيود مطلقة علي عمليات نشر المحاكمات وضمان علانيتها التي ينص عليها القانون.. وإحدي أدوات تطبيق العلانية هي الصحافة والإعلام.. ويحسب للمستشار صيام أنه دعا رؤساء التحرير من مختلف الأطياف إلي هذا الاجتماع الموسع لكي يشرح وجهة نظر السلطة القضائية.. ويؤكد للصحافة أنه لا يتخذ موقفاً منها.. ويعبر عن مضمون القانون الذي يجب الالتزام به. لقد أدي تأجيل موعد الاجتماع نصف ساعة، إلي أن أتيحت لي فرصة نقاش دقيق مع سيادة المستشار في وجود الأستاذ الفاضل جلال دويدار أمين عام المجلس الأعلي للصحافة وعدد من المستشارين الأجلاء.. حيث عبرت عن وجهة نظري فيما يلي: • إن المشكلة لم تكشف عن نفسها بعد سنوات طويلة من التغطيات الصحفية اليومية إلا بعد أن أقحمت كاميرات التليفزيون نفسها في قاعات المحاكم وحولتها إلي مادة للصخب والجدل.. ومن ثم فإنه لا يمكن أن نأخذ الصحافة بجريرة التليفزيون. • إن مكون الجريمة والقضاء في مضمون العمل الصحفي اليومي «أساسي» ولا يمكن الاستغناء عنه، تماماً مثل الرياضة، وأن اختفاءه أو تقليصه نتيجة لتلك الضوابط سوف يؤدي إلي نتائج أخري.. ليس أقلها التحول إلي البحث عن غيره. • إن تطبيق تلك الضوابط قد يجعل الصحافة في «تعارض مصالح»، ولا أقول «صدام مستمر» مع إجراءات القضاء.. وأن هذا سوف يخلق تعقيداً لا لزوم له. وقد قال الأستاذ دويدار إن الأمر معقد بالفعل. • إنه سيكون علي مجلس القضاء الأعلي أن ينسق مع نقابة المحامين لأن المحامين سوف يتحولون إلي مصادر أساسية لمضامين القضايا.. وسوف يسعون إلي ذلك. وقد خلص المستشار صيام إلي التأكيد علي أنه لا يبتدع مبدأ أو يختلق قانوناً.. وإن ما تحدث بشأنه في بيانه يعود إلي نصوص قانونية مستقرة.. وأنه ينبغي ضمان عدم توجيه الرأي العام تجاه الأحكام قبل أن تصدر من خلال التغطيات غير المتوازنة.. لأن الناس تكون وجهات نظر حين تستمع إلي دفاعات وأسانيد طرف دون طرف.. ومن ثم يعتقدون أن الأحكام قد جانبها الصواب.. وأن علي الصحافة لكي تضمن الحيادية أن تنقل كل المطروح في المحكمة فلا تبرئ متهما يفترض فيه البراءة قبل أن يصدر الحكم.. ولا تدينه قبل قرار المحكمة.. وليس عليها أن تنشر التحقيقات الجارية في النيابة لأنها بحكم القانون سرية.. كما أنه ليس علي أحد أن يسجل مقطعاً من المحاكمة بأي وسيلة وإلا فإن عليه أن يذيعها كلها كاملة دون نقصان. هذا رأي سيادته.. ولسلطة القضاء كل الحق في أن تضع الضوابط التي تريدها والتي تراها.. خصوصاً إذا كان هذا قانونياً فعلا.. وخصوصاً إذا كانت تعمل من أجل صالح المتهمين «الأبرياء في الأصل» قبل صدور الأحكام.. ولاسيما إذا كان هدفها هو صون استقلال القضاء من صخب الإعلام. ويحسب للمستشار سري صيام أنه أصدر ما أصدر مع تأكيده علي الحرص القضائي علي حرية الصحافة وعلي علانية الجلسات وعلي تقديره للسلطة الرابعة التي تمثلها الصحافة.. ويحسب له سعيه إلي النقابة وإلي رؤساء التحرير.. ودعوتهم للنقاش.. وإنه قال إن هذا لن يؤدي إلي ملاحقة الصحفيين ولكن مضمون رسالته هو أن يلتزم الصحفيون بالضوابط. إن من واجبه الدعاية للقانون.. أن يذكر به.. وأن يؤكد عليه.. هذا دور سيادته.. وكم من مرات انتقدنا انغماس قضاة إعلامياً في الحياة العامة والسياسية.. ولعل ما صدر عن المجلس الأعلي للقضاء يقود إلي تقويض هذه الظاهرة بطريقة غير مباشرة.. كما أن من واجبنا أن ندافع عن مصالح المهنة التي نمارسها في حدود القانون.. دون أن يتجاهل أي طرف مقتضيات الواقع.. وللواقع قانونه. نحن هنا في هذا الموقف الجديد بصدد «تعارض مصالح» أكيد.. يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة القضاء وطبيعة الصحافة.. فهما متبادلان وإذا كنا نريد ونؤكد علي أنه ينبغي لأي قرار صدر أو سيصدر أن ينفذ.. فإننا لا نريد لما صدر عن المجلس الأعلي للقضاء أن يكون كلاما وانتهي الأمر.. اربأ به عن هذا.. ولكننا أيضا لا نرغب في أن يؤدي إلي تقييد التغطيات ولا إلي احتمال أن يواجه الصحفيون لسبب من أي نوع ملاحقات.. أو ضغوطاً ضمنية. طبيعة المحاكمات أنها من عدة فصول.. لا يوجد حكم يصدر في جلسة واحدة.. وهناك آلاف من القضايا التي تغطي في كل يوم.. وليست فقط قضية واحدة أو اثنتين.. ولا يمكن لمحرر صحفي أن ينتظر انتهاء المحاكمة بالكامل حتي يكتب عنها قصة متوازنة ودقيقة وغير منحازة.. ثم إننا نتابع الجرائم منذ تكون لدي الشرطة وصولاً إلي المحكمة ومروراً بالنيابة. لكن من حق القضاء أن يطالب الصحافة بعدم التدخل خلال التغطيات في توجيه الرأي العام ضد مواقف القضاة.. أو منح هذا أو ذاك تعاطفاً لا يستحقه أو إدانة لا تجب عليه.. لا ينبغي أن نكون قضاء موازيا.. كما لا نتوقع من القضاء أن يقضي تدريجيا علي هذا المكون المهم في الصحافة التي نقدمها للناس.. ومنها يتعلمون القيم ويعرفون كذلك أن القانون يطبق وأن من يخطئ يعاقب.. وهذا يفيد القضاء في إقرار مسئولياته وتأكيد حضور القانون وفعاليته. نأمل أن تقود هذه التوجهات الجديدة في تطبيق القانون، الموجود أصلاً وغير المبتدع، إلي فرض ما تريده السلطة القضائية من انضباط.. ومنع الإخلال بسمعتها بين الناس.. ولها كل الاحترام.. كما نأمل ألا يقودنا هذا إلي تعارض مصالح يومي قد يصل في بعض الأحيان إلي محاسبة صحفيين خالفوا نصوص القانون بكثير من حسن النية.. سوء النية لا يمكن لأحد أن يدافع عنه ومن السهل كشفه. www.abkamal.net [email protected]