أما في الجانب العلمي والعقلي فلم يأخذ الغرب عن الفكر اليوناني مباشرة لإقامة النهضة، بل تم أخذ هذا الفكر عن المسلمين بعد أن ترجموه وطوروه وزادوا فيه وأضافوا إليه الكثير من العلوم، وهذا بشهادة عشرات وعشرات من العلماء الغربيين المنصفين التي لا تخفي علي فاقد العينين ونذكر منها علي سبيل المثال بعض الشهادات علي النحو التالي: قال البنديت جواهر لال نهرو- في كتابه لمحات من تاريخ العالم: (كانوا بحق -يقصد العرب والمسلمين- آباء العلم الحديث وأن بغداد تفوقت علي كل العواصم الأوروبية -عدا قرطبة- عاصمة إسبانيا العربية وإنه كان لا بد من وجود: ابن الهيثم وابن سينا والخوارزمي والبيروني ،لكي يظهر جاليليو وكبلر وكوبر ينق ونيوتن...) انتهي. ويقول د.لوجي رينالدي: (بينما كان نجم المدنية الرومانية التي قامت علي أطلال المدنيات القديمة قد اخذ في الأفول وكانت أوروبا قد عادت وسقطت في ظلمات الجهل كان العرب يشرفون برءوسهم من سواحل البحر الأبيض ولم يلبثوا أن قامت منهم تلك البعثة الخطيرة التي أيقظت الأمم الأوروبية .وأن ظهور العرب لحادث جلل يستحق أن يذكر منا بالشكر والامتنان لأن مدنية هذا الشعب العظيم كان لها تأثير وأي تأثير في حياة الشعوب اللاتينية بل الأوروبية ،وكان العالم اليوناني وأخوه الروماني قد سقطا في كل مكان عندما اخرج محمد العظيم خلفاءه من أبناء الصحراء ونشرهم في أنحاء العالم لفتحه وغزوه فانتشروا في كل مكان وجروا فوق صهوات جيادهم شرقا وغربا حتي شيدوا ذلك الملك الكبير الزاهر الذي كان يمتد من بلاد الهند إلي بلاد الأندلس ومن بحر الخزر حتي المحيط الأطلسي. ثم نقل المسلمون مدنيتهم وحضارتهم وعلومهم وصنائعهم إلي صقلية في منتصف القرن السابع الميلادي. وكان يعيش الرعايا في راحة وسرور تحت حكم أمراء المسلمين وكانت حالتهم أحسن بكثير من حالة إخوانهم الإيطاليين الذين يرزحون تحت نير اللنجورمانيين والفرنجة وأن وجود مئات الكلمات العربية في اللغة الإيطالية (وغيرها ) ليشهد بما كان للمدنية الإسلامية من نفوذ عظيم في العالم المسيحي ومما كان من العلاقات التجارية بين بلادنا). ويقول: (اجتاح العالم المسيحي حوالي سنة 1000م غزو إسلامي جديد كان كالسيل الجارف ولم يكن أي حاجز يقوي علي شده ولكنه كان هذه المرة مخالفا لسابقه إذ لم يكن ضغطه علي الأجساد بل علي العقول: ذلك الغزو كان التهذيب العربي والمدنية العربية فإن شعب الصحراء العظيم ظهر علي وجه الأرض بعد سقوط المدينتين الرومانية واليونانية واندثار معالمهما وعقب ذلك النصر الكبير الذي أحرزه بسلاحه ذلك النصر الجميل الذي كان نتيجة الدرس والتعلم الذي أوجده أمراء العرب وسهلوا سبله لأبنائهم وبعد ذلك قام العرب في ظلمات بربرية القرون الوسطي بإعادة نور الحضارة والمدنية الذي كان قد انطفأ في جميع بلاد الغرب والشرق حتي القسطنطينية في أيام سقوطنا ولجأ العلم إلي ظل الأديرة الهادئ حيث كان الرهبان المساكين قد انزووا في مقصوراتهم وأخذوا يمسحون رخامتهم القديمة ليكتبوا عليها أصول ديانتهم وكانت مدنية العرب في القرنين التاسع والعاشر في الأندلس وصقلية قد بلغت أوج الكمال فلما شعرنا بالحاجة إلي دفع ذلك الجهل الذي كان يثقل كاهلنا تقدمنا إلي العرب ومددنا إليهم أيدينا لأنهم كانوا الأساتذة الوحيدين في العالم وتسرب العلم من إسبانيا وصقلية إلي بلاد أوروبا. وقد تلقي "جلبرت "الذي كان بابا عام 999م تحت اسم سلفستر الثاني دروسه كلها في مدارس العرب بالأندلس ولما رجع إلي أوروبا و أراد نشر ما أخذه من العلوم بين مواطنيه ظهر لهم ما نشره بينهم غريبا جدا حتي اتهموه بأنه باع روحه للجن وبدأت في 1130م بمدينة طليطلة ترجمة الفكر الإسلامي)انتهي. ويقول ريفولت في كتابه (بناة الإنسانية): (لم يكن بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلي أوروبا المسيحية وهو لم يمل قط من التصريح بأنه تعلم من معاصريه اللغة العربية وعلم العرب وهو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة وكان النهج العلمي التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارا واسعا وانكب الناس في لهفة علي تحصيله في ربوع أوروبا لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية علي العالم الحديث ولكن ثماره كانت بطيئة النضج وإن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل علي اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلي أوروبا الحياة بل إن مؤثرات أخري كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلي الحياة الأوروبية فإنه علي الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأولي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلي مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة فان هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة وفي المصدر القوي لازدهاره أي العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي. إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه لنا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة فحسب بل يدين هذا العلم إلي الثقافة العربية بأكثر من هذا إنه يدين لها بوجوده نفسه) انتهي. (نقلا عن: الإسلام والحضارة ،أنور الجندي، دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، عبد الرحمن بدوي، اثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، احمد علي الملا). للحديث بقية