رغم مشقة السفر فإن الرغبة في المعرفة ونقلها للناس يستحق ما هو أكثر من المشقة.. رحلة إلي شمال خط عرض 22 الذي يفصل بين مصر والسودان. شمال هذا الخط حيث حلايب وشلاتين وأبورماد يعيش 20 ألف مصري علي بعد 1200 كيلو متر جنوب شرق القاهرة لهم حياتهم الخاصة.. وعاداتهم التي لا يعرفها الكثيرون. «روزاليوسف» قضت 48 ساعة بجميع أرجاء المنطقة، لتنقل صورة واقعية حول الأوضاع الموجودة بها، ليست السياسية فقط، ولكن أيضا الاجتماعية والاقتصادية، والتعرف علي مطالب وطموحات أهلها.. توقفنا في الحلقة السابقة عند الاستعداد للقاء شيوخ القبائل وفي هذة الحلقة نرصد مطالبهم ونستكمل رحلتنا الي (أبورماد وحلايب ورأس حدربة). مازلت في يومي الأول بمدينة "شلاتين" والساعة تقترب عقاربها من العاشرة مساء، أثناء وجودي وسط رجال قبائل "العبابدة" و"البشارية"، وتتفرع من كل قبيلة قبائل فرعية أخري، وهم السكان الأصلين ل"شلاتين وحلايب" وما يجاورها، ومعظمهم حضروا من السعودية والعراق والأردن والسودان ليقيموا في هذة البقعة، ويصبحوا جزءا منها مُتمسكين بانتمائهم إلي مصر كوطن لهم. قبيلة "العبابدة" هي أكبر وأقدم القبائل بالمنطقة، ويقال إن نسبهم يرجع إلي الصحابي "الزبير بن العوام"، أما قبيلة "البشارية" فقد حضرت من الجزيرة العربية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وزحفت إلي المنطقة بعدما جفت عنهم الأمطار، وهناك أيضا قبيلة "الرشايدة"، التي أكد لي الشيوخ أنها جاءت من السعودية وتعيش علي أطراف "شلاتين". "الروتانا" لغة خاصة للعبابدة وتعتبر تربية الجمال والتجارة بها هي العمل الرئيسي لأهالي القبائل، وقد لجأ البعض للعمل في الصيد من البحر الأحمر، وتعتبر أيضا صناعة الجلود (بالطريقة اليدوية) من الصناعات الأساسية التي يعتمد عليها العديد من السكان وتقوم السيدات عادة بهذا العمل، وجميع أبناء القبائل يتفاهمون مع بعضهم البعض باللغة العربية ولكن هناك لغة تسمي "الروتانا" يفهمها أبناء "العبابدة" فقط. الشيخ "سر الختم محمد" عبر عن الرفض الشعبي لدي الاهالي عن انتمائهم لأي دولة أخري سوي الدولة المصرية، وأنهم لا يعرفون أي انتماء سوي الانتماء لمصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وكل شيء، وأنهم مصريون وليسوا غير ذلك، ويرفضون مطالب بعض الأصوات التي تنادي بضمهم للسودان معتبرين أن ذلك مجرد فرقعات لا يهتمون بها لأنهم لم يروا خيرا إلا علي أيدي المسئولين المصريين، ولم يكونوا يوما ينتمون إلي وطن سوي إلي مصر. معاشات للشباب والأرامل وأشاروا إلي وجود كافة الخدمات التي توفرت لهم، علاوة علي الإعانات التي يحصلون عليها سواء في صورة معاشات للمسنين أو الأرامل والمطلقات، فالشاب المتزوج يحصل علي 80 جنيها شهريا وغير المتزوج علي 60 جنيهات اما الارملة فتحصل علي 110 جنيها، أو في صورة دعم بالمواد التموينية ، وخير مثال علي الدعم الذي تقدمه الحكومة لتحفيز التلاميذ علي الالتحاق بالمدارس يتمثل في قيام وزارة التربية والتعليم بدفع 5 جنيهات لكل تلميذ عن كل يوم دراسة، وتوفير الوجبات الغذائية الطازحة له وكذلك دعمهم بكافة مستلزمات الدراسة مجانا. مطالب بتوفير الاستثمار وزيادة المدرسين انتهزت فرصة جلوسي مع شيوخ القبائل وسألتهم عن مطالبهم، فوجدت أن معظمها يدور حول بناء مزيد من وحدات التوطين وذلك لا يعني أن هناك تقصيراً ولكن السبب يرجع إلي رغبة الكثير من أهالي المنطقة في ترك حياة الجبل الجافة، والتواجد وسط العمار بجوار الخدمات، المطلب الثاني هو مزيد من الترويج للمنطقة لجذب المستثمرين إليها والعمل في مجال الثروة الحيوانية علي سبيل المثال، لأن هذا سيوفر فرص عمل اكبر للأهالي. وطالبوا أيضا بضرورة توفير المعلمين، وزيادة أعدادهم خاصة أن المدارس متوفرة بجميع مراحلها، أما العاملون في الصيد فقد طالبوا باستثنائهم من فترة "حظر الصيد" لأن العمل في هذا المجال هو مورد دخلهم الوحيد. أحزاب المعارضة غائبة كان من ضمن الحاضرين في لقائي مع شيوخ القبائل احد أبنائها ويدعي "صلاح عرار" وهو أمين الحزب الوطني ب"شلاتين" وهو الحزب الوحيد الذي يعمل في المنطقة، فأحزاب المعارضة لا تعرف عن مشاكل ومطالب الأهالي هناك شيئا، وليس لها أي تواجد نهائيا، وقد عمل الحزب الوطني علي رفع الوعي السياسي لدي الأهالي خاصة مع وجود 8 آلاف و600 صوت انتخابي ب"شلاتين" وتوابعها. والملفت أن المرأة في "شلاتين" بدأت تتجه للعمل السياسي أيضا، فمثلا هناك سيدتان مرشحتان في الانتخابات القادمة، علاوة علي وجود 3 سيدات أعضاء بمجلس محلي المدينة وواحدة عضوة بمجلس محلي المحافظة، والحزب يساهم في توفير الخدمات للأهالي خاصة المساعدة في مشروعات الشباب، ومحاولة جذب المدرسين للعمل بمدارس المنطقة وغير ذلك من خدمات. سوق الجمال الجديد أنهيت جلستي مع شيوخ القبائل، وعدت إلي مكان "المبيت" مرة أخري بعدما قاربت الساعة من الثانية صباحا وحاولت أن أحصل علي قسط من النوم الذي استيقظت منه عندما اقتربت الساعة من السادسة صباحا، وبدأت استكمال رحلتي في اليوم الثاني من وجودي بالمنطقة وكان برنامج هذا اليوم هو زيارة قري (أبو رماد وحلايب ورأس حدربة)، وقبل أن تخرج السيارة من "شلاتين" توقفت عن أطرافها لمعاينة سوق "الجمال" الجديد، الذي تم إنشاؤه علي مساحة 80 ألف متر ويضم 40 محلاً، وقد جاء بمواصفات تيسر علي التجار عملهم. مدارس أبو رماد قطعت السيارة مسافة 140 كيلو متراً من "شلاتين" حتي وصلت إلي "أبو رماد" التي التقيت مع رئيس الوحدة المحلية بها ويدعي "عابدين سعيد" وأوضح أن عدد سكان القرية حوالي 5313 نسمة بما يعادل 1209 أسر معظمهم من أبناء قبيلة "البشارية" المتفرع منها 17 قبيلة، وأهم المهن الموجودة بها هي الرعي والصيد وبعض الأعمال التجارية الصغيرة ، وتضم القرية مدرستين للمرحلة الابتدائية ومدرسة إعدادية وأخري ثانوية عامة وتجارية، علاوة علي تواجد التعليم الأزهري بجميع مراحله، ويصل عدد التلاميذ بجميع مراحل التعليم الأساسية إلي حوالي 1250 طالباً، وهناك 9 فصول لمحو الأمية. وتشتمل القرية أيضا علي وحدة صحية ونقطة إسعاف، وبها محطة لتوليد الكهرباء بقدرة 1350 كيلو وات في الساعة، وهناك وحدتان لتحلية المياه وشبكة مياه بطول 14 كيلو متراً، ويوجد 3 مخابز للعيش البلدي، ووحدة زراعية عملها يتركز في الثروة الحيوانية بشكل أكبر، كما قامت الدولة بتسليم الأهالي 322 وحدة توطين وجار العمل في إنشاء 40 وحدة أخري. أما بالنسبة للاتصالات فهناك سنترال سعة 2000 خط وعدد المشتركين به 137 كما توجد وحدة اجتماعية تؤدي الخدمات للأهالي، أما مركز الشباب فقد وصل عدد المشتركين بها الي 320 فرداً. نقص الأدوية "أحمد جيش" أحد مشايخ "أبورماد" لفت إلي وجود عدد من المشاكل التي تتطلب الحل ومنها أن مركز الشباب مُعطل ويحتاج إلي تطوير كما أن التموين الشهري يصل متأخراً، وقد يفوت الكثيرون الحصول عليه، وهناك أيضا نقص في الأدوية بالوحدة الصحية وان ما ينقذهم هو القوافل التي تبعث بها القوات المسلحة، وكذلك هناك مشكلة في عدم توفير أخصائيين للنساء والولادة بالذات في القرية، وهناك أيضا مشكلة عدم توفير محطات تقوية لشبكات التليفون المحمول. وعلي بعد 45 كيلو متراً من "أبو رماد" وصلت إلي "حلايب" ويبلغ عدد سكانها نحو 3 آلاف نسمة، وقد شهدت القرية أيضا العديد من التطورات في الخدمات، فقد تم تسليم 68 وحدة توطين للأهالي وجار تسليم 40 وحدة أخري، كما أن مدارسها بها حوالي 700 تلميذ. طموحات التلاميذ وكان لقائي مع أهالي "حلايب" داخل إحدي مدارسها الثانوية، وقمت بجوله بها وتعجبت من طموح تلاميذها؛ فمنهم من يريد ان يصبح عالم ذرة وأخر عالم فضاء، أما التلميذات فطموحاتهن تذهب إلي مهنة الطب، وعبر التلاميذ عن تمسكهم باستكمال التعليم والتزامهم به خاصة أن الإمكانيات كلها متوفرة حتي المواصلات تقلهم من كل مناطق القرية الي مدارسهم حيث تتوفر السيارات لذلك. وقد أشار "عبدالكريم محمد" -مدرس أول اللغة العربية بالمدرسة- إلي أن الطفل هناك يتميز بمستوي ذكاء عال، وثقافة الدروس الخصوصية معدومة تماما عندهم، ولذلك فنسبة النجاح غالبا ما تصل إلي 100% ولكنه ألمح إلي وجود بعض المطالب أولها زيادة حافز المدرسين العاملين ب"شلاتين" والقري التابعة لها لتزيد علي ال150% ولفت إلي وجود عجز في مدرسي اللغة الإنجليزية والفرنسية. أما "حسين محمد" (شيخ مشايخ حلايب ورأس حدربة) فقد طالب بضرورة إحلال وتجديد ماكينات الكهرباء التي تتسبب في الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. الوصول إلي رأس حدربة وعلي مسافة 12 كيلو متراً من "أبو رماد" وصلت إلي آخر نقطة حدودية وهي قرية "رأس حدربة" وعدد سكانها حوالي 650 نسمة، التي تضم المنفذ الذي يربط بين مصر والسودان وتتواجد حوله السيارات المحملة بالبضائع، ورغم بعد المسافة إلا أن القرية تضم العديد من الخدمات فبها 8 فصول لمراحل التعليم الابتدائية والإعدادية علاوة علي عدد من وحدات التوطين. مع اقتراب غروب الشمس تركت "رأس حدربة" عائدا إلي "شلاتين" مرة أخري لأنام ليلتي استعدادا للعودة إلي القاهرة في الصباح، وقبل إن اذهب إلي المطار قررت أن أقوم بزيارة سوق "شلاتين" القديم وهوعند الأهالي هنا يشبه منطقة "وسط البلد" التجارية في القاهرة ، والسوق أغلب مبانيه من الأخشاب، ويتوفر به أغلب السلع فيضم السوبر ماركت ومحال الفاكهة وأكشاك بيع العطارة خاصة الشطة والسمسم السوداني والكركديه والجنزبيل وأنواع مختلفة من التوابل ذات الروائح النفاذة. كما يضم السوق محال لبيع الأحذية المصنوعة من جلود الإبل والماعز، أما المقاهي فهي تنتشر بين جنبات السوق لتستقبل التجار مع المطاعم التي تقدم لحوم الجمال كوجبة رئيسية، والأمر المُلفت أيضا ان معظم المحال بها تليفزيونات تعرض جميع القنوات الفضائية، وهي أيضا أصبحت موجودة داخل معظم بيوت الأهالي، السوق به أيضا ورش ميكانيكا لزوم تصليح سيارات تحميل البضائع. تركت السوق وحزمت حقائبي متجها إلي طريق عودتي إلي القاهرة، ووجوه الأهالي تودعني بكل حب متمنيين أن أعاود زيارتهم، وهي نفس الأمنية التي أطلبها أيضا، فالحياة مع أهالي "شلاتين" تشعر الإنسان براحة نفسية كبيرة ناجمة عن طيبة قلوبهم وحسن استضافتهم.